بهجة الكيبورد وخطايا العولمة!
إلى وقت قريب، كنت واحدأً من أشد المدافعين عن فكرة الكتابة الورقية، متعللاً بأسباب رومانسية لا تحصى بخصوص رائحة الحبر، وأهمية الورقة البيضاء، والمسودات الأولى للكتابة، ونوع الخط والخربشات التي ترافق السطور الأولى للقبض على الفكرة متلبسة بالجرم المشهود.
اليوم، وبعد تمارين لا تحصى، وارتباكات في الكتابة المباشرة على الكمبيوتر، أدّعي أنني صرت بلبلاً مغرداً في خميلة الكيبورد. وأكثر من ذلك، أصبت بلوثة الهجران الكامل للكتابة الورقية. واكتشفت أن الجملة التي تنشأ على شاشة الكمبيوتر، أكثر رشاقة ووضوحاَ في المخيّلة، فعملية المحو سهلة للغاية، كما أن الجملة ذاتها، سرعان ما تستدعي جملة أخرى، بأقل قدر من التكلف والإطناب البلاغي. التكثيف ميزة أخرى للكتابة الكمبيوترية، بوجود سمة التنسيق، فكلما استطردت قليلاً، كنت ألقي نظرة على حقل «عدد الكلمات»، فأطمئن إلى خط سيري، وأستعد للتوقف عند المحطة المطلوبة، من دون أن أغفو في قطار محطة بعيدة.
كان غابرييل غارسيا ماركيز(من دون مقارنة) يقول أن الجملة الأولى، هي التي تحدد مسار الكتاب بأكمله، فإذا كانت هذه الجملة غير صحيحة، فإنها ستلغي كل ما بعدها، وهو ما جعله، يمزّق أوراقاً ومسودات لا تحصى، قبل أن يطمئن إلى جملته الصحيحة الأولى. وعلينا أن نتصور الأعباء التي كان يتكبدها صاحب «مئة عام من العزلة» في الجلوس وراء جهاز الآلة الكاتبة، وسحب مسودات الأوراق التالفة، قبل أن يتحول إلى الكتابة على جهاز الكمبيوتر المحمول. بالطبع فإن الكتابة على الكمبيوتر، في المقابل لا تصنع من البيض المكسور عجة شهية بالضرورة، فالكاتب السيئ، سيبقى كاتباً سيئاً على الدوام، سواء كتب على الورق أو على الكمبيوتر. وعلى الرغم من تحوّل معظم الكتاب إلى الكتابة الكمبيوترية، إلا أن التقاليد الكتابية في العالم العربي، لم تعترف إلى اليوم، بالتطورات التقنية المذهلة التي أطاحت عملياً بألقاب وعبارات كثيرة كانت تسبق أسماء الكتاب، وأشهرها على الإطلاق، عبارة «بقلم الكاتب الكبير». وأعتقد أنه آن الأوان لإلغاء مثل هذه العبارة، بعد اختفاء القلم من أدوات الكتابة، فالنص وحده من يمنح قيمة فعلية لصاحبه، ومن غير المعقول أيضاً، أن نقول اليوم عبارة من نوع «بكيبورد الكاتب الكبير»!
بأسف، إننا نمارس حياتنا اليومية كأبناء بررة للقرن الجديد بكل تقنياته، لكن عقولنا لا تزال تسرح في مراعي الأسلاف، وتحرس خراف القيم القديمة في مواجهة «ذئاب العولمة»، على رغم أن ذئاب العولمة «تعوي» ليلاً ونهاراً، في تفاصيل حياتنا. هكذا نعبر شوارع اليوم برأس واحد وعقلين متنافرين، الأول يرقد مطمئناَ على بساط الموروث، ويتلذذ بطعم القهوة المرة، والثاني يتطلع إلى فضاء آخر بعيد، الأمر الذي يقود ببساطة إلى حوادث مرورية مفجعة، في آلية تفكيرنا، فعند أول منعطف للمواجهة، نلغي ببساطة كل منجزات العصر، ونرتد إلى عباءة الأجداد بوصفها جداراً استنادياً لكل القيم.
هناك فوائد أخرى للطفرة التقنية في الكتابة، باختفاء الرسائل العاطفية المعطّرة، الرسائل التي طالما هدد بوساطتها العشاق الخائبون حبيباتهم بفضحهن على الملأ، كوثائق دامغة، على مشاعر سرية مختلطة بالدموع وأحمر الشفاه، والورود المجففة. اليوم ليس بالإمكان اعتماد الرسائل الالكترونية وثيقة للإدانة، فهي قابلة للتزوير والإضافة والمحو، كما أن اختراع «التشات»، يتيح استعمال أسماء وهمية في التعارف وتبادل الأفكار والعواطف، واستبدال اسم سمير، باسم سميرة، واسم رنا، باسم رياض، والعيون البنية بعيون زرقاء، كما بإمكان الصلعاء أن تدعي أنها بشعر طويل يصل إلى ردفيها. وبإمكان العاشقين هدر قواميس كاملة من مفردات العشق والبوح على الشاشة، من دون خوف أو تردد، والدخول في مناطق سرية، تتجاوز كل تاريخ الرسائل الورقية التي «خطها» عشاق خالدون.
بالطبع لا يمكن نسف خصوصية الورق تماماً، فقراءة رواية على شاشة الكمبيوتر، أقل بهجة بكثير، مما هي عليه بين دفتي كتاب، هنا بإمكان القارئ التوقف ملياً أمام جملة أعجبته، وربما وضع إشارة تحتها، أو طي الصفحة المحددة من أجل العودة إليها لاحقاً، لكن للكتابة على الشاشة بوصلة أخرى، وخريطة واضحة في استعادة الجملة الهاربة، ومحو ما هو فائض ومرتبك ببساطة شديدة. أعتقد أن الأمر لا يتوقف عند حدود استعمال الكيبورد والماوس، بل في ما يتعلق بآلية التفكير في إنشاء الجملة نفسها، إذ لطالما كانت الكتابة على الورق تعتمد نوعاً من السرية والخصوصية، بينما يتيح الكمبيوتر حالة علنية للكتابة، وهي تصب إلى حد ما، في خانة الديمقراطية في صناعة الخطاب الثقافي عموماً. اليوم هناك من يعلن عن كتابة رواية مشتركة على شبكة الانترنت، يساهم فيها كل من يرغب، الأمر الذي يلغي سلطة المبدع الفرد لمصلحة الكتابة الجماعية، وانفتاح النص على مصراعيه بوصفه مدوّنة عالمية.