مطبات: حقل ألغام بشواهد فارغة
حقل ألغام دخلته بملء إرادتي، وكنت على يقين أن نهايتي ستكون على ترابه المتناثر حول جثتي المتعفنة من الإهمال، وأن شاهدتي ستنصب واطئة لتدل على ميت هنا، شاهدة دون كلام مقدس أو بيت شعر.
صدقت ذات يوم الكذبة التي تقول بأن الشعراء سيحكمون العالم ذات يوم، وتورطت في خديعة الكلمة مثل كل الحمقى المنتشرين حول الأرض، الحمقى الذين يديرون عالماً من خيال وورق، الحمقى الذين يشربون وحدهم كأس فرادة اللغة، وينسون الواقع.
وأغبى ما صدقته كلام للراحل ممدوح عدوان في لقاء صحفي أجريته معه ذات يوم كان فيه حياً: (الشعر لن ينتهي، هناك مجموعة في العالم متآمرة لتستمر الكلمة)، كنا على طاولة صغيرة وغير نظيفة في مقهى المعهد العالي للفنون المسرحية، وكان عدوان يضحك عن أسنان أكلها العرق والدخان، ولغة معاندة لم تمنح الجسد الذي تسلل إليه السرطان من الصمود طويلاً.. ركب الرجل سيارته الحمراء الصغيرة، وقميصه الأحمر الناري.. ثم التحق بحقل من الشواهد الفارغة.
رياض الصالح الحسين مات على باب قصيدته في غرفة صغيرة وضيقة صالحة للموت، كتب عن الثورات التي تجاور المستنقعات، الذئاب، والنساء، والوطن، وخراب الدورة الدموية.. لكنه مات كوعل في الغابة.. بشاهدة فارغة.
مات الجميع.. بألقهم، بحبنا لهم، بحنقنا عليهم، بتخويننا للبعض، وبتقديسنا للبعض الآخر، رفعنا وأنزلنا، ألّهنا ومسخنا، الماغوط ودرويش ودنقل وقباني والسيّاب، وآخرون أعلنوا الصمت، وغير البعض جلدهم، لكنهم في النهاية.. لقبور بشواهد فارغة.
في هذا الوقت الذي يستبد به الفراغ كأعلى صوت، في هذه الهوة بين الإبداع والجنون الذي يحكم سرائرنا، هناك من كان يعتقد أن الفرصة مواتية للصوت المتميز أن يعلو، وللفرادة أن تجد مكانها، وللمبدعين أن يعتلوا ظهور قبورهم المعدة، وأن ينقشوا على قبورهم عبارات تغير عادة الحقل العميق في رسم الشواهد الخالية، شاهدة تحمل توقيعاً ولو كان على حد قول إياد شاهين (لقد نجوت من الحياة بأعجوبة).
الفراغ يصادره المبدعون الجدد، قدامى صاروا مع رحيل أقرانهم أسياداً بالسن، ومن حولهم جوقة من التلاميذ الذين يبحثون عن رأس أشيب ليصرخوا به: أستاذ.
الأستاذ الذي هيأ له الفراغ سطوة الكلام في الهواء المفرغ، يصدر الأحكام، يسحب الشرعية ويلبس الأوسمة، يتهم، يبجل، يمتدح، صار الزمن الفراغ مملكته التي تعيش في خيلاء وحدته المملوءة بالنقيق والنفاق، هنا يتحسس فحولته، وهنا يشعر بالخصي، وفي لغته الوحيدة الملوكة يعري ويشتم، ثم يشتري بها قليلاً من الشراب لينام.
كنت أعتقد أن السبايا وحدهن من يبعن ويشترين، وأن البغايا وحدهن لعنة الله على المرأة، وأن زمن إلقاء الأكياس المليئة بالدراهم والدنانير صار خلفنا، وأن العاهرة من تأكل بفرجها وثدييها، وأن الغاوين فقط وحدهم يطاردون الشعراء إلى جهنمهم، لكن الفراغ يقود قطيعاً يتناسل ويتوالد ويتشابه.
هنا في قلب العالم الذي دخلته طائعاً، ولا أخرج منه، يتنافس الموهوبون والجاهلون والدخلاء، لا تمييز بينهم، الفرص متاحة للمارقين والمرتزقة، المتسولين والنبلاء، السكارى وحفظة شعر المعلقات، القادمين من البادية ومن صالونات الثقافة، العالم الذي يشكلنا نحن من نمسك القلم ونخط ديباجة مدحنا وسخطنا وكراهيتنا، العالم الذي يساوي بين المبدع والعادي، الصحفي والمخبر، الشاعر ومطرب المطبخ.
هنا نكتشف صداقاتنا، وشراكاتنا، والعالم السفلي الذي نحياه، العالم السفلي الذي ننعته بأبشع العبارات، لكننا نشكل منه القلب، نتشابه معه في ذروة تحليقنا في القصيدة والمقالة والتحقيق والحوار، في وصف بعضنا لبعض، في عداواتنا المبطنة، ولساننا الصريح الكاذب.
هنا ينمو الجنون، ويعتقد المجنون في قمة هياجه أنه العاقل، هنا وأستعير إياد شاهين (ظن الخيط الذي خرج لتوه من الإبرة أنه هو الذي ثقبها).