«الشريط الأبيض» الكلاسيكي في مواجهة الحداثي
كان من مفاجآت مهرجان كان لعام 2009 فوز الفيلم النمساوي الشريط الأبيض لـ مايكل هاينكه، في ظل ترشح أفلام متميزة لعمالقة شاشة الفن السابع في العالم مثل فيلم «أوغاد مجهولون» لكوينتين تارانتينو و«نقيض المسيح» للارس فون ترايير، و«في الأصل» لزافيير جيانوللي، و«البحث عن إريك» لكن لوتش، و«الانتصار» لماركو بيللوكيو.
ومن ثم تابع «الشريط الأبيض» مسيرته في نيل الجوائز ليحصل منذ فترة قريبة على جائزة «الغولدن غلوب» لأفضل فيلم أجنبي، والسؤال ما السر الذي حمله هذا الفيلم ليجتاح مهرجانات السينما في العالم ويحقق هذا الفوز الكبير؟؟ وهل بالفعل كان هنالك ميل من أعضاء لجنة تحكيم مهرجان كان السينمائي الدولي للمخرج؟؟
إن فوز هاينكه في هذا الفيلم يعيد إلى الذاكرة مرحلة الأفلام الكلاسيكية التي اجتاحت كان في الستينيات وبداية السبعينيات، من حيث أن هذا الفيلم يحمل في طياته أساليب كلاسيكية من حيث الصورة والموضوع، حتى إن حداثة الطرح التي وصفه بها بعض النقاد لا تتوضح إلا في جزئيات بسيطة من أسلوبية المخرج.
«الشريط الأبيض» يعلن خراباً داخلياً في الريف الأوروبي، والنمسا نموذجاً، لمرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى، هو حديث مديد وطويل عن أحداث تجتاح الأسر الإقطاعية وهي ليست وليدة ممارساتها مع الفلاحين فحسب، بمقدار ما هي إعلان على عدم قدرة الإقطاع الأوروبي عن تسيير أمور الريف، واختلاف الحياة وطبيعة التعامل في تلك الفترة، من خلال جملة جرائم ترتكب في قرية ريفية في النمسا نجد أن الفيلم لا يبحث عن القائم بها بقدر ما يقدمها كواقع حقيقي بات من صلب الحياة الريفية ... فكيف المدينة إذاً...
«الشريط الأبيض» هو هذا الشريط الذي كان يربطه الأهالي للأطفال دائماً ليذكرهم بالبراءة، عندما يخطئون في تصرفاتهم، هذا الشريط الذي بدأ رب الأسرة بتذكره عندما رأى تصرفات أبنائه تشذ عن المنطق، ليعبر الشريط عن أخلاقيات بدأت تفتقد في القرية ولا يمكن استرجاعها، من خلال استرجاع عادة الشريط الأبيض الذي استغل مقولته هاينكه ليخرج من معناه البسيط دلالات عميقة واسعة باتت كل تفاصيل الفيلم تدور حولها.
اتخذ المخرج صورة «أبيض وأسود» مندمجاً بشكل أكبر في كلاسيكيات البيئة والمرحلة، هذا الأسلوب الذي زاد من الهدوء والبطء الذي يعم الفيلم، وعمّق من الكآبة التي تسكن كل تفاصيل الحياة في المادة.
القصة العاطفية في الفيلم بدت أحياناً من صلب الحدث، على اعتبار أن راوي الحدث هو أحد طرفي هذه العلاقة، وتتأثر علاقته بكل الأحداث في الفيلم، بينما تبدو هذه القصة هامشية أحياناً حين يغوص الراوي في الحديث عن الجو الاجتماعي السائد، بعيداً عن علاقته بتلك الريفية الفقيرة التي جاءت إلى بلدته لتعمل في بيت البارون كمربية.
كون الراوي أستاذاً فإنه يرتبط بشكل أكبر وأوعى بالأطفال الذين يشكلون جزءاً هاماً من التغير الطاغي على البيئة ككل، هذا التغير الذي استدعى التفكير بشريط أبيض جديد تستعيد فيه القرية براءتها.
من طبيعة كان المفاجأة، وانتقاء نماذج معينة من السينما تفضلها لجان التحكيم على تحف سينمائية كبيرة، وبالفعل هذا واقع «الشريط الأبيض» الذي استطاع بكل تفاصيله الهادئة والكلاسيكية أن يطغى على نماذج تسجل في تاريخ السينما العالمية كروائع..