صورة المرأة في أرشيف الذكورة (1)
كتب الشيخ محمد بن أحمد التجاني، في مقدمة كتابه الشهير «تحفة العروس ومتعة النفوس»: «ولمَّا كان التلذذ بالنساء أعظم اللذات، وكان لهن من التقدم في قلوب الرجال ماقدمهن الله سبحانه به في كتابه على سائر الشهوات، رأينا ان نجمع من ملح أخبارهن، ومستظرف نوادرهن وأشعارهن، وما يستحلى من اوصافهن... وماينبغي للرجل أن يتخيَّر لنكاحه منهن، وبيان جمل من أحكامهن، نبذاً تجمع بين إفادة العلم وإمتاع النفوس، فجمعنا هذا الكتاب...»
بهذه الكلمات قدم التجاني كتابه الذي يعتبر من أهم الموسوعات ™الأيروتيكية عن المرأة في القرون الوسطى، وإذا تجاوزنا الإنبهار الأولي الذي ينتاب القارئ المعاصر بسبب جرأة اللغة التي يكتب بها الشيخ (وهو من الفقهاء المالكيين المشهورين) وأسلوبه المباشر في تناول موضوعه الذي بات الآن من المواضيع الشائكة والحساسة، فإننا سرعان ماسنتوصل إلى معرفة العناصر الأولية التي انبنى عليها تفكير التجاني في تناول موضوعه، وهي العناصر نفسها التي يقوم عليها حتى يومنا هذا الخطاب الذكوري المهيمن، الذي ارتسمت من خلاله تمثيلات المرأة في العقل والمخيال العربيين.
ينطلق التجاني في البداية من فكرة «التلذذ»، فالمرأة واردة في خطابه بوصفها موضوعاً للتلذذ، والذات المتلذذة هنا هي ذات الرجل الذي يتقدم في قلبه (والقلب في الاستعمال اللغوي القديم كلمة فضفاضة تعني العقل والعاطفة والشهوة) التلذذ بالنساء على «سائر الشهوات»، ويدعِّم التجاني كلامه برده إلى كتاب الله الذي أكَّد على ذلك «التقدم» الشهواني. وهكذا يبرز بوضوح العنصر الأول في بنية الخطاب الذي يقدمه لنا التجاني، وهو اختزال الكل بالجزء، فالمرأة هنا مختزلة إلى مجرد موضوع للرغبة و«التلذذ» الذكوريين، ولايظهر لها أي وجود أو ميزات منفصلة عن موضوع اختزالها، وكل ذلك مرسخ بسلطة الخطاب القرآني (كما يقرؤه التجاني).
يواصل التجاني سرده، فيعلن عزمه على جمع أخبار ونوادر وصفات النساء، وكل مايتعلق بشؤونهن وصولاً إلى «ماينبغي للرجل أن يتخيَّر لنكاحه منهن»، وهنا يبرز العنصر الثاني في خطاب التجاني، وهو العنصر «المعرفي»، فالمرأة موضوع التلذذ يجب أن تُشيأ لتصبح مادة معرفية للخطاب الذكوري، وذلك الإخضاع المعرفي هو تمهيد اولي للإخضاع الاجتماعي والجسدي الذي سيمارسه الذكر بعد أن يتخيَّر، وفقاً لما تراكم لديه من مادة معرفية، ما يوافق متطلباته من الأجساد والصفات الأنثوية.
وأخيراً، يطمئننا التجاني بأنه لن ينسى أن يورد لنا «بيان جمُل من أحكامهن»، أي أنه سيقدم ثبتاً موثقاً بالأحكام الفقهية والأعراف الاجتماعية المتعلقة بالنساء، وهنا يبرز العنصر السلطوي خير بروز، وهو العنصر الثالث والأكثر أهمية في بنية خطاب التجاني، فحالة المرأة كموضوع مختزل للتلذذ الذكوري مقوننة بشكل كامل بجملة من القوانين والقواعد، ومستندة إلى مجموعة من المؤسسات والسلطات الاجتماعية. التجاني هنا يخلع ثوب الأديب المتفكه، ويرتدي عمامة الفقيه الحازم، فجسد المرأة ميدان لتقاطع العديد من خطابات السلطة ومؤسساتها، والتلذذ به محدد بقنوات ووسائل معروفة، وعلى الرجل إخضاع المرأة بصرامة، ومن ثم إخضاع نفسه لهذه القنوات والوسائل.
ثلاث عمليات متسقة ومترابطة يمارسها التجاني في خطابه، لتنتج عن ذلك الصورة النموذجية لتمثيل المرأة في الخطاب الذكوري العربي، فهو أولاً يجعل المرأة موضوعاً مختزلاً للذة للذكر، ثم يشيؤها بوصفها مادةً معرفية، ثم يعيد ربطها بمتطلبات السلطة بعد أن يكون قد هيأها معرفياً لذلك الإرتباط، وهذه العملية الممارسة على مستوى الخطاب هي تمثيل فكري معكوس للواقع التاريخي الذي عاشته المرأة، حيث تمَّ أولاً إخضاع جسدها سلطوياً، ليصبح موضوعاً للحجز والرقابة، مما ممكن من جمع مادة معرفية واسعة عنه، صيغت ضمن الخطاب الذكوري بشكل واضح ومنظم، لتصبح المرأة مجرد اختزال جسدي لشهوانية الذكر.
والملاحظ هنا أن مفهوم «التلذذ» عند التجاني لايشمل جسد المرأة بوصفه جسد متعة فحسب، بل يشمله أيضاً بوصفه جسد إنسال (أي أن مهمته الاساسية هي الإنجاب ورعاية الأبناء، وما يرتبط بذلك من واجبات وأنظمة اجتماعية)، وهكذا فإن التلذذ عند التجاني هو الأساس في التعامل السلطوي الذكري مع المرأة بكل أشكاله، وهو العنصر البنيوي الأساسي، الناظم لبقية العناصر التي تؤسس بنية خطابه، وهذا مؤشر هام يجعل من كتاب التجاني معبراً عن كامل العقلية الذكورية العربية، و يخرجه من دائرة الكتب الخفيفة المجتزأة التي تُعنى بتقديم النوادر والتسالي الأيروتيكية.
إن قيامنا باسترجاع الخطاب الذي صاغه التجاني عن المرأة في العصور الوسطى ليس مجرد ترف بحثي، أو رغبة مجانية في التنقيب بأرشيفنا التراثي، فذلك الخطاب حاضر في واقعنا المعاصر أكثر مما نتصور، والأوليات التي أقيم عليها مازالت تحكم تفكيرنا ذكوراً وإناثاً (لعل تبني المرأة للتمثيلات والاختزالات والقوالب التي يقوم عليها الخطاب الذكوري هو من أهم الأمثلة على الإستلاب الفكري).
وإذا كان باستطاعتنا أن نجد لدى التجاني أكثر التعبيرات وضوحاً وفجاجةً عن صورة تمثيل المرأة في العقل العربي التقليدي، فإن الأرشيف الذكوري يحفل بتنويعات أخرى عن تلك الصورة، وهذا ماسنحاول أن نبينه في الجزء الثاني من هذه الدراسة...