رائد وحش رائد وحش

العناوين.. بطشٌ بالكلمات

أفتش في كل عمل أدبي أو فني، كتاباً كان أو فيلماً أو لوحةً، عن تفسير ما للعنوان، لكونه مُوجّه الغواية ومؤسسها، علّني أقبض على جمرة ذلك السرّ.

إن عنواناً باهظاً مثل «سرير الغريبة» لمحمود درويش، فيه من السحر ما يجعل المتلقي ممغنطاً، ومرغماً على البحث عن هذا السرير الذي لهذه الغريبة، إلى حدّ خلق إيهامات بلا حدود، أخطرها ما يدفع السؤال التالي: هل الكتاب نفسه سرير نامتْ عليه امرأة غريبة؟

وبالوتيرة نفسها، تستطيع عناوين أخرى أن تخلق بعبارة، ببضع كلمات، حالات من الأرق والدوخان، مقاومتها مكابدة أخرى، مثل «قداس جنائزي في آب» فيلم كورساوا، أو «رجوع الشيخ إلى صباه» كتاب أحمد بن سليمان، أو «مقهى الرصيف ليلاً» لوحة فان كوخ، أو«ويطول اليوم كقرن» رواية جنكيز إيتماتوف.. حيال هذا يرضخ المرء لمقولات السيمياء في أن العنوان مصيدة، عتبة إغراء، وبطش بالكلمات.

يقول د.خالد حسين مؤلف كتاب «في نظرية العنوان»: «تنبثق أهمية العنوان - سليل العنوان - من حيث هو مؤشر تعريفي وتحديدي، ينقذ النص من الغُفلة، لكونه - أي العنوان - الحدّ الفاصل بين العدم والوجود، الفناء والامتلاء، فأن يمتلك النص اسماً (عنواناً)، هو أن يحوز كينونة، والاسم (العنوان)، في هذه الحال، هو علامة هذه الكينونة»، في بحثه هذا يستقصي الناقد حسين تاريخ العنوان، ومعناه، واستراتيجياته، وشؤونه، وتفرعاته، وجمالياته.. «العنونة» باتت علماً، تحدد للعنوان وظائف إرسالية وإحالية وأنطولوجية وشعرية أيضاً، وبعيداً عن التنظير الكبير الذي قدمته مباحث السيمياء والتّفكيك، يصلح العنوان أن يكون لأجل ذاته، ويستحق الاحتفاء وحده كجمال صرف، وتحت وطأة هذا الشغف باستطاعة أيّ منّا أن ينثر مئات العناوين كما لو أنها درر يحتفظ بها الشخص في متحف ذاكرته.. فعناوين أفلام مثل «عيون مغلقة باتساع» و«نساء على حافة الوقوف في أزمة عصبيّة» و«جنس وأكاذيب الفيديو».. ومجموعات شعرية مثل «وصل ضفتين بصوت» و«الشاي ليس بطيئاً» و«كشهر طويل من العشق».. وسواها الكثير، إنما هي نصوص مستقلة، قائمة بذاتها.. ولعلّ الكاتب الذي ينشغل بعنوان عمله، ويعيش من أجله أرقاً وعذاباً، هو الكاتب الجدير بثقة القارئ.. عربياً تبرز عناوين روايات اللبناني رشيد الضعيف بمغايرتها وجرأتها فـ«تصطفل ميريل ستريب» و«انسي السيارة» و«أوكي مع السلامة» تمثل إضافة نوعية لهذا الفنّ، فنّ العنونة، و الكلام نفسه ينطبق على القاص الفلسطيني محمود شقير صاحب «صورة شاكيرا» و«ابنة خالتي كوندليزا».

أسوأ أنواع العناوين، على الإطلاق، هي تلك التي تتشكل من كلمة واحدة، إذ غالباً ما تخلو من أية دلالة، وأيّ دفء، باستثناء «لن» أنسي الحاج الذي جعل من حرف النصب هذا معادلاً للصّراخ والرّفض واللّعنة. كذلك بات ما درج، في الآونة الأخيرة، من عناوين تقوم على صفة وموصوف، أو مبتدأ وخبر، بمثابة عملية تخريب مدبرّة لفنّ أقسى ما يسيء إليه هو التنميط. ما الذي أبقاه هؤلاء لنا، خارج الكتابة، كي يأتوا للإجهاز على ما تبقى من ملذاتنا الشخصيّة.

ليست الكتب والسينما والمسرح من تستأثر بهذا الجمال، فالصحافة تنافسها بذلك، وبالطبع لا أرمي إلى المانشيت الساخن الذي يؤدي وظيفة في النهاية، بمقدار ما أقصد الجماليّ، أيضاً وأيضاً، في عنوان المقال، ولعلّ واحداً من أجمل العناوين التي صدرت في الصحافة العربيّة عنوان جريدة «السفير» تعليقاً على قرار بلجيكي باعتبار شارون مجرم حرب: «بلجيكا يا حبيبتي.. أعدت لي كرامتي».

ثمة مسألة أخيرة، تتعلق برأي شخصي، وهي بخصوص الدراسات التي تضع عناوين بؤرية تلوح بالفكرة العامة للعمل كـ«نقد العقلانية العربية» و«تشريح النقد».. هذه الخشونة تكسر بعنوانين أحدهما جمالي إيحائي، والآخر تعييني، مثلما تفعل عادة سلسلة عالم المعرفة في عناوينها فعنوان مثل «إبداعات النار» سيشدّ اهتمام القارئ، حتى لو كان العنوان الثاني «تاريخ الكيمياء المثير من السيمياء إلى العصر الذري»..

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الجمعة, 02 كانون1/ديسمبر 2016 17:43