«قاموس الموسيقى» لروسو: مبالغات من سيّد المنطق
يعرف كثر أن المفكر الفرنسي جان - جاك روسو كان فيلسوفاً وروائياً وعالم تربية ومؤسساً للدفاع عن البيئة والانصهار بالطبيعة. ويعرف كثر أيضاً أنه كان من رواد أدب الاعترافات في العصور الحديثة ومن مفكري التنوير الذين رسموا جزءاً أساسياً من الخلفية الفكرية والعقلية للثورة الفرنسية، كما أنه كان موسوعياً في كتاباته وتفكيره، وفي اهتماماته الكتابية أيضاً. غير أن قلة من متابعي روسو، تعرف أنه كان في الوقت نفسه عالم موسيقى ومؤرخاً موسيقياً.
وكانت له في هذا الفن أفكار وآراء وضعته خلال المرحلة الأخيرة من حياته على صدام مع الكثير من خبراء الموسيقى، وجعلته يعتبر صاحب موقف يتناقض تماماً مع مواقف رامو من الموسيقى، بل في موقف يناصر الموسيقى الإيطالية ضد الموسيقى الفرنسية في شكل عام.
والحال أن اهتمامات روسو الموسيقية، والتي ترتبط في جوهرها باهتمامه بالطبيعة وبدراسته المتواصلة لموقف الفنون من الطبيعة، تجلّت منذ البداية في الكثير من المقالات الموسيقية التي كتبها لـ «الموسوعة» بناء على طلب من صديقه وزميله ديدرو، لكنها تجلت بعد ذلك، وفي شكل خاص، في كتاب له مستقل، كان آخر ما طبع من أعمال له، قبل رحيله. وهذا الكتاب هو، بالتحديد، «قاموس الموسيقى» الذي صدر عام 1767 أي قبل رحيل روسو بأحد عشر عاماً.
ولنسارع هنا إلى القول إن لهذا القاموس حكاية. والحكاية تبدأ كما أشرنا مع الجزء الخاص بالموسيقى الذي كُلف روسو وضعَه بين عامي 1748 و1749. يومها وخلال فترة زمنية لا تزيد على ثلاثة أشهر، استجاب روسو لطلب ديدرو وصاغ مجموعة من الدراسات الموسيقية التي نشرت في «الموسوعة». ولكن، بما أن هذه الدراسات كتبت خلال مهلة من الوقت كانت سريعة، أتت - أي الدراسات الموسوعية - مبتسرة غير دقيقة فكثرت الانتقادات التي وُجهت إليها، لا سيما من قبل رامو، الذي انتقدها انتقاداً قال عنه الخبراء يومها إنه أتى دقيقاً وصائباً في شكل يفحم الفيلسوف ويقلل من شأن أهميته كناقد للموسيقى ومؤرخ لها. هكذا، لم يكن أمام روسو إلا أن يتراجع، ليروح مشتغلاً بين 1756 و1764، وببطء ودقة هذه المرة، على إعادة النظر في كل ما كان قد كتبه عن الموسيقى في «الموسوعة». هكذا، اكتملت له دراسات جديدة تألق منها، هذه المرة، متن «قاموس الموسيقى». والحال أن العمل جاء هذه المرة أفضل بكثير، ليس طبعاً في النصوص التي تناولت سير الموسيقيين، ونقد أعمالهم، بل في مجال البحث النظري، حيث طغى على الأسلوب بعد ذاتي متميز. كما لم يفت روسو أن يوجّه، في متن الكتاب، غمزة ناحية رامو، قائلاً إنه سيد الهارموني من دون منازع، حتى وإن «كنت أنا أفضّل موسيقى تارتيني الإيطالية، غير المعروفة كما ينبغي في فرنسا»، وفق قوله.
منذ مقدمة «القاموس» يؤكد روسو أنه تعهد أن يقف على الحياد تماماً في الصراع بين الموسيقى الفرنسية والموسيقى الإيطالية، غير أنه مع هذا لم يستطع أن يخفي تماماً تفضيله الإيطالية التي كان، لسعادته، يرى فيها التجسيد الحي لـ «فكرة محاكاة الطبيعة»، كما كان يرى لديها وحدة لحنية تجسد كل ما كان يريده من الموسيقى على الضد من «كل تعقيد في تركيبية التناسق الموسيقي وتفاقم «الكونتربوان» الذي لا يكون من شأنه عادة إلا أن يسيء إلى عرى اللحن ونقائه». لهذا، أكثر في متن القاموس من أحكامه التي يقول فيها مثلاً: «إنه لمن العسير جداً عدم الاعتقاد بأن كل الهارمونيا التي نستخدمها ليست سوى اختراع غوطي وهمجي»، و «أن السيد رامو يزعم مع هذا أن الهارمونيا هي منبع أرفع ضروب الجمال الموسيقي، غير أن الواقع والعقل يكذبان تماماً هذا الرأي»، و «أن كل موسيقى لا تُغنّى، سواء كانت أو لم تكن هارمونية، ليست سوى موسيقى بدائية تعجز تماماً عن التأثير وينتهي بها الأمر الى إثارة السأم لدى الأذن، تاركة الفؤاد بارداً تماماً»... لذا، وانطلاقاً من هذا كله يخلص روسو إلى القول: «... أولاً، إن كل موسيقى لا تُغنّى هي موسيقى مضجرة، مهما كان مدى الهارمونيا التي تحتويها. ثانياً، إن كل موسيقى نعثر فيها على أغان عدة متوازية الحضور، يمكن اعتبارها موسيقى سيئة»، لأن مثل هذا التوازي يشتت الفكر والعواطف ولا يضيف إلى العمل الفني، في رأي جان - جاك روسو، شيئاً. والحال أن جل النقد الذي وجه إلى روسو في زمنه بصدد «قاموس الموسيقى» هذا، كان نقداً منصباً على هذه النقطة بالذات، حيث إن نقاد الموسيقى، وجمهرة النقاد المنطقيين العاديين أيضاً، رأوا التناقض كل التناقض لدى روسو حين يقول من ناحية إن الهارمونيا لذة حسية خالصة، ومن ناحية ثانية إنها اختراع غوطي وهمجي، خصوصاً حين يقول أيضاً إن الغناء لا يحلو حين يكون جماعياً تركيبياً، إذ إن هذا القول يبدو غريباً وغير منطقي من كاتب كان يرى في أفكاره كلها أن على الإنسان أن يعود إلى طبيعته الأولى والمبدئية، حين كانت الحياة جماعية وحين لم يكن يحلو للمرء أن يغني إلا جماعة، ما يعني أن أصول الغناء أصول جماعية تتزاحم فيها تركيبية الهارمونيا، لتخلق ذلك الفن. كما أن روسو، حين يقول إنه ضد الهارمونيا لأنها حسية فقط، يناقض أفكاره المعروفة عنه، والتي كانت تنادي بعودة الفرد إلى أحاسيسه الأولى المبدئية يوم كان على التحام بالطبيعة التي كان وجودها من حوله وفيه يعطيه مقداراً كبيراً من الأحاسيس التي تعينه على العيش.
فهل معنى هذا أن روسو كان يحرّم على الموسيقى، ما كان يدعو إليه في الفكر، لا سيما في فكره الداعي إلى العودة إلى الطبيعة؟ ليس تماماً. فالحال أن كل هذه الأفكار التي لم تأتِ، أصلاً، إلا في مقدمة «قاموس الموسيقى» تبدو هنا لفظية لا أكثر، وكأن روسو لا يوردها إلا لكي يستخدمها سلاحاً في معركته ضد رامو ومن يناصر رامو. أما في النصوص التي تشكل متن القاموس، فإن الأحوال بدت مختلفة إلى حد كبير، إذ هنا وحين كان روسو يفاضل بين كل موسيقى إيطالية وكل موسيقى فرنسية، كان يرجح كفة الإيطالية، حتى وإن كانت هذه الأخيرة، في حقيقة أمرها، تناقض ما دعا إليه في مقدمته. وكثيراً ما أخذ على موسيقيين من مواطنيه الفرنسيين مآخذ كان يمكن أن يكون هو نفسه قد دعا إليها في مقدمته الوافية. غير أن هذا كله لا يمكن أن يدفع، حقاً، إلى الانتقاص من القيمة الإجمالية لهذا العمل الموسوعي، الذي لم يكن من الإنصاف القول إنه موجه إلى الخبراء، بل إلى العامة، ومن هنا كان يمكن التساهل مع «هنات» روسو أو «مبالغاته»... ذلك أن الأساسي فيه ظل قائماً: وهذا الأساسي هو أن الكتاب قرّب مبادئ الموسيقى إلى أعداد كبيرة من الناس، وفسر لها الكثير من أسرار هذا الفن، وقال للكثر من قرائه لماذا كان يمكنهم عفوياً أن يحبوا هذه القطعة من الموسيقى أو تلك، كما أنه عرّف قراءه الفرنسيين إلى موسيقيين أجانب لم يكن الفرنسيون سمعوا بهم من قبل. وفي هذا الإطار يمكن القول إن المحصلة النهائية للعمل تبدو إيجابية.
والحقيقة أن «قاموس الموسيقى» هذا، إذا كان لا يزال يُقرأ على نطاق ما حتى اليوم، فإنه لا يُقرأ كدليل حقيقي من أجل حب الموسيقى وفهمها، بل لإضاءة جانب إضافي من حياة وفكر جان - جاك روسو (1712 - 1778) المفكر الذي يدين له الفكر الإنساني بالكثير من الأعمال كـ «الاعترافات» و «إميل أو التربية» أو «إيلويز الجديدة»، خصوصاً كتابه الأشهر والأهم «العقد الاجتماعي» الذي يضعه كثر في خلفية الكثير من الكتب الفكرية والاجتماعية والفلسفية التي أثّرت في الفكر الإنساني طوال العقدين الأخيرين، كما أثر في الجانب الفكري التنويري من الثورة الفرنسية.
المصدر: الحياة