«معترم»... قرية سورية منحوتة في الصخر
كنت وصديقي فهد مرتيني الباحث في علوم الكمبيوتر وصاحب كتاب (مدخل إلى نظم التشغيل)، نخطو بصعوبة عبر منحدرات جبلية شديدة الوعورة، ندور حول مستوطنة بشرية تتألف من كهوف منقورة في الصخر في السفوح الجبلية لقرية «معترم» التابعة لمدينة أريحا في محافظة إدلب شمال سورية
كنا نتفحص تلك المنحدرات الوعرة ونتتبع ما فيها من نباتات برية منتشرة بين الصخور، علّنا نهتدي إلى تفسير صدى الأصوات المكتومة للسحق والطحن من الرحى الحجرية الكبيرة الموجودة في هذه البيوت المحفورة في الصخر.
ماذا كانوا يطحنون؟ وفي أي عصر عاشوا؟ وما الذي ألجأهم إلى تلك المعيشة؟ هل هم مجموعة عائلية ترتبط بنسب الدم اختارت هذا المكان المنعزل لتعيش حياتها على الصيد والالتقاط بعيداً عن حياة البشر المعقدة؟ أم هم مجموعة سكانية مهاجرة من مكان ما سكنت في «معترم» في طريق هجرتها؟ وبم نفسر وجود تلك القبور المنحوتة في الصخور التي تركوها شاهداً حياً على وجودهم. وطريقة نحت هذه القبور تشبه إلى حد كبير ما نشاهده في القبور الوثنية ثم المسيحية في المواقع الرومانية المنتشرة في تلك المنطقة؟
تدل الكهوف المنحوتة في الصخر بشكل واضح على التكيف المذهل مع البيئة المحيطة، فقد عمل السكان على نحت ما يحتاجون إليه في حياتهم الصعبة تلك لتسد حاجاتهم المعيشية البسيطة، وصنعوا من تلك الصخور الكلسية مكاناً آمناً يفي حاجاتهم الأساسية.
ثم لاحت لنا في البعيد شجيرات البلوط المتوارية بين صدوع الصخر. فهل كان سكان هذه المستوطنة يستخدمون ثمر شجر البلوط في غذائهم. هذا افتراض وارد لأن بيوت القرية منحوتة في منحدر الوادي ومن الصعب على الإنسان أو الحيوان التحرك في دروبها الشديدة الوعورة. لذا فقد استخدموا ما توفر لهم في غابات شجر البلوط المحيطة. وهذا الرأي يعززه بعد السهول الخصبة المحيطة بالوادي وندرة مصادر المياه، فهؤلاء السكان قد حفروا داخل بيوتهم جباباً لجمع المياه في الفصول المطيرة. وقد أكدت المصادر التاريخية أن حبة جوز البلوط كانت غذاءً أساسياً في أجزاء كثيرة من العالم في الأزمنة القديمة وكانت وجبة مهمة في أوربا القرن التاسع عشر.
يمكننا التأكيد هنا أن كل الأرجاء القابلة للسكن في جبل الزاوية وجبال باريشا في محافظة إدلب في شمال سورية، والتي تعرف لدى علماء الآثار بالمدن المنسية أو المهجورة أو البائدة وتضم أكثر من ألف موقع في تلك الهضاب الكلسية، هذه المواقع سكنتها جماعات بشرية بكثافات مختلفة وكان قوام معاشها الصيد والالتقاط في أول الأمر. وعندما تم لها الاستقرار، كانت القفزة تتمثل في نمط معاشي معول على الإنتاج الفعلي للقوت القائم على تأهيل النباتات البرية واستئناس الحيوانات الوحشية، ولولا تلك القفزة لكنا ما نزال نعيش تلك الحياة البدائية. والسؤال الذي يخطر في البال هل يمكن أن نكون أسعد حالاً من اليوم؟