عبدي يوسف عابد عبدي يوسف عابد

سر الخلود

حياة كل إنسان، هي أغلى ما يملكه في هذا الوجود، سواء عاشها منعما في قصور فيها خدم وحشم، أو في حالة ضنك وعوز في الأكواخ، لذا يدافع عنها باستماتة، ويبذل الغالي والنفيس دون المساس بها لكنه يضحي بها عن طيب خاطر من أجل تحقيق أهداف وطنية، أو الذود عن مبادئ ومعتقدات إنسانية سامية عندما يؤمن بأنها أغلى وأقدس من حياته، وتستحق التضحية والفداء من أجلها، كالاستشهاد في سبيل تحرير بلده وشعبه من محتل جائر أثيم، ورفع راية سيادته الوطنية عالياً.

إن شدة تعلق الإنسان بالحياة، وتمسكه بها بالمخالب والأسنان، هو السبب الرئيسي الذي دفعه منذ عصور في غاية القدم، إلى البحث عن سر الخلود، والحلم بحياة أبدية، فجاءت الأديان السماوية، وربطت هذه القضية بالترغيب والترهيب في حساب الآخرة، بينما ديانات أخرى ربطتها سابقاً بالتقمص...

كان لي عمة اسمها بهية، قد بلغت من العمر عتياً، بحيث لم تكن تبصر أبعد من نصف متر. هذا عدا عن آلامها المستمرة، من المعدة والكبد والمرارة المستعرة. ومع ذلك لم تكن تتخلى عن سابق دورها، في توجيه انتقاداتها وأوامرها. إذا همت بالوقوف، يتراكض لنجدتها الموجودون حتى الضيوف، كانت تسير بتؤدة خطوة خطوة، لكنها لم تنج من البلوى. رجلها الثالثة اهتزت بيدها، وفقدت توازنها، فسقطت وإحدى ساقيها انكسرت، وإلى كومة من اللحم تحولت لم تجد فيها معالجات الأطباء، ولا نفع فيها مفعول دواء. كل صباح كانت تصيح بإلحاح:

غيروا هذا الطبيب، إنه جاهل. ولكن لا هذا الطبيب أو ذاك نفع، ولا هي عن نقها وإلحاحها ترتدع. قالت في يوم من الأيام: رأيت في المنام، بأن حجابا من الشيخ ضرغام، فيه البرء والشفاء من كل داء. لكن بعد أيام، يئست منه ورمته في الحمام، كانوا يجاملونها ويطيبون خاطرها: وجهك منور مثل الشمس، تبدين اليوم أفضل من الأمس. كانت تجيب وهي تكز على أسنانها وتنقبض كفاها وتلتوي أصابعها: طبعاً سأشفى، وأنهض على حيلي وأتعافى. هل تظنون أن صاحب النهي والأمر، سيتركني على حالي حتى نهاية العمر.

قلت في نفسي، والعجب مني يتصاعد: «أواه.. كم الحياة حلوة وجميلة وغالية، حتى يتعلق بأذيالها الإنسان بمثل هذه الشدة، وهو في أرذل العمر. فالقانون الطبيعي للحياة، يفرض على كل حي شرب كأس المنون الأليمة، فحياة الإنسان في نهاية المطاف، لا تقاس بعدد السنين التي عاشها، بل بما خلفه من شهرة وسمعة طيبة، في مواقف ونضالات وطنية واجتماعية، أو في انجازات أدبية وعلمية هي التي ستخلده لدى الأجيال اللاحقة، بمقدار ما قدمه للمجتمع من خدمات ومثل إنسانية تقتدى.

آخر تعديل على الثلاثاء, 29 تشرين2/نوفمبر 2016 10:46