رغم فعالية دورها الثقافي والاجتماعي (2 - 2) المراكز الثقافية الأجنبية بين الرؤية الاستشراقية وإنتاج الثقافة المحلية واللامبالاة
المركز الثقافي الإسباني، الذي تحول إلى معهد ثربانتس وبعد سنوات من شغله بناءً قديماً في المهاجرين، انتقل إلى السبكي ليحصل على بناء السفارة اليابانية الضخم ويجدده، هذا الانتقال لم يعنِ تحسناً في الأداء الثقافي رغم بعض المظاهر الاستعراضية كالإعلانات الضخمة، وتوفر صالة عرض سينمائي تعرض أفلاماً إسبانية قديمة، وغير مترجمة، فيما لم يكن مستوى المعارض التشكيلية التي استضافها مع توفر صالة أكبر لافتاً، المركز القديم استضاف بعض المحاضرات القيمة، منها محاضرة لناديا ظافر شعبان مترجمة لوركا، ونظم معارض هامة وإن كانت اتخذت لها مكاناً خارجه، كمعرضين لأعمال الحفر لبيكاسو وغويا في صالة أتاسي والمتحف الوطني. لكن لم يستضف المركز أسماء ثقافية إسبانية كبيرة، كما لم يعطِ لثقافة أمريكا اللاتينية حيزاً هاماً من نشاطه وهو المؤهل للقيام بهذا الدور مع عدم وجود مراكز ثقافية لهذه الدول (قبل سنوات استأجر القنصل البرازيلي فرناندو سلوم قبواً في المالكي، لينظم عروض فيديو لأبرز الأوبرات العالمية المصورة).
والمركز الإسباني كانت له الريادة في تنظيم مهرجان الموسيقا العربية الأندلسية الذي كان يقام في خان أسعد باشا، في استفادة مبكرة من إمكانيات فضاء هذا الصرح الأثري الجميل. نظم المركز نشاطات عديدة خارج مقره الصغير السابق، في قصر العظم أو في جامعة دمشق، لكنها بمعظمها كما زميله الفرنسي اتخذت طابع شرقنة الشرق مع التأكيد على المفهوم الأندلسي كجسر حوار. لم يكن معهد ثربانتس يوماً مكاناً للقاء، وحتى في مقره الجديد الذي تتوفر فيه كافيتريا متوسطة الحجم في الهواء الطلق (كافيتريا الأندلس) وهي الوحيدة التي تقدم البيرة بين كافيتريات المراكز الأجنبية، إلا أن المكان ظل مقصوراً على طلاب اللغة الإسبانية في المعهد تقريباً. رغم أن موقع المعهد صار في مركز المدينة ولم يعد بعيداً كالسابق.
المركز الثقافي الألماني، المسمى معهد غوته منذ البداية، كانت نشاطاته أكثر أهمية حين كان في مقره القديم في الشعلان (المجلس البريطاني حالياً)، (مازلت أذكر المحاضرات القيمة للفنان رضا حسحس عن كبار الفنانين التشكيليين الغربيين التي كان يرافقها عرض سلايدات للوحات)، لكنه كالإسباني لم يكن كثيف النشاطات، وكان تعليم اللغة الألمانية أولويته الأولى كما رعى نشاطات تقام خارجه معظمها موسيقية. توفر المعهد ومايزال (بعد انتقاله إلى عنوان أبعد هو المالكي) على مكتبة جيدة فيها قسم عربي ومكتبة موسيقية وتشكيلية، لكن من يقرؤون الألمانية ظلوا محدودين. قبل سنتين وفي المقر الجديد لم يكن لدى المعهد برنامج ثقافي، رغم امتلاكه صالة عرض كبيرة، وقاعة أنيقة للسينما والمحاضرات. أما كافيتريا المركز التي تحمل اسماً كبيراً (برلين كافيه) فهي عبارة عن عدد من الكراسي الواطئة والأطباق النحاسية التي تحولت إلى طاولات، وروادها من طلاب المعهد.
سلبية بعض المراكز الثقافية الأجنبية ، تظهر بصورة جلية في المجلس البريطاني، المهتم بدورات اللغة ذات التكاليف الباهظة، فيما لا ينظم المركز أو يرعى نشاطات ثقافية لأكثر من مرة أو مرتين في العام، وهي بمجملها تقام خارجه، ولا تتسم بطابع معين وهي متفاوتة الجودة. أما مكتبة المركز فهي صغيرة الحجم ويغلب عليها الطابع التعليمي. للمجلس البريطاني ديكور داخلي جميل، أما كافتيرياه فهي للطلاب.
أما المركز الثقافي الأمريكي، المحصن، والمزود بإجراءات أمنية مشددة، فلا يزيد نشاطه الثقافي عن عروض أفلام فيديو ليس لها قيمة نوعية، وحتى وقت قريب ضم المركز مكتبة كبيرة، كانت تشكل مصدراً هاماً بالنسبة للمثقفين السوريين، الذين غالباً ما تكون لغتهم الثانية هي الإنكليزية. الآن ألغيت المكتبة، ولا يوجد في المركز كافيتريا، فكأن الجماعة لا يريدون من أحد أن يزورهم. أما النشاطات التي ينظمها المركز في أماكن أخرى فهي نادرة ولا ينظمها خط معين. وعموماً لم يعمل المركز على استضافة مثقفين كبار من العالم الأنكلوسكسوني.
مركزان حديثان هما المعهد الدانمركي والمعهد الهولندي، الأول يتخذ من واحد من أجمل البيوت في دمشق القديمة مقراً له، بيت العقاد في مدحت باشا، ليندرج ذلك ضمن الرؤية الاستشراقية التي أشرنا إليها، ورغم أن المركز ذو هموم أكاديمية، منصبة على دراسة المنطقة وتاريخها واستضافة الباحثين الدانمركيين، إلا أنه ينظم في مقره الجميل نشاطات متباعدة معظمها لسوريين، ولا تتسم بميزة نوعية، لكن لم يفاجئنا المركز بتنظيم ندوة عن كيركغرد أو أندرسن، أو أن يقيم أسبوعاً لأفلام لارس فون ترير أو أن يدعوه شخصياً.
أما المعهد الهولندي، الذي انتقل من بيت دمشقي قديم في باب شرقي، كان أشبه بسكن للطالبات الأجنبيات، إلى بناء جديد في المزة الشرقية، ورغم إقامته دورات للغة محدودة الانتشار كالهولندية، إلا أن نشاطه الثقافي المتواضع المتمثل ببعض عروض الأفلام وبعض المعارض، كان يمر دون أن يشعر به أحد.
مراكز أخرى كالتركي، الذي حل مكان المجلس البريطاني القديم في أبي رمانة، والذي فشل في استضافة أورهان باموك قبل سنوات، رغم إعلانه ذلك، هذا المركز نظم معارض نادرة فولكلورية الطابع في مقره الكبير، وقليلون يعرفون أن هناك مركزاً ثقافياً تركياً. أما المركز الثقافي الإيطالي في ساحة الروضة، فتحتاج لخريطة للوصول إليه، ونشاطه الأساسي هو دورات اللغة، مع بعض الندوات الأثرية المتباعدة والحفلات الموسيقية التي يرعاها خارج مقره.