مطبات: الرهان.. بردى
عاد بردى مبكراً هذا العام، عاد بردى كعاشق قديم ليفيض وسط دمشق، ويدغدغ أرواحنا العطشى للخصوبة، وأجسادنا المتشققة من الظمأ. عاد النهر الذي خسر رهان نهايته من لا يحبون الحياة لمدينة آوت الإنسان الأول.
بردى اليوم يمشي مختالاً وسط المدينة التي هدهدت خطواته الأولى، المدينة التي تغيرت وتغير معها كل شيء، البشر، النهر، الوجوه، البيوت، المعرض القديم، الزوار البسطاء الذين يفرشون طعامهم وشرابهم ودخانهم، زوار المصاطب التي ترقد بسلام على كتف النهر، تغيرت المدينة كلها.
من منبعه إلى مصبه أول البادية، هناك عند بحيرة (العتيبة) نهايات غوطة دمشق، كان النهر يمارس الحياة والتناسل، ويوزع على أهالي دمشق وريفها الخير، وولدت من نسله الغوطتان، في شرقه وغربه، وفي المنصف حيث العبور الحار ثمة مدينة تسمى دمشق، يسقيها ويوزعها ربوة وواد.
تغيرت المدينة.. وامتدت يد الناس إلى المحرمات الخضراء، وزرعوا على أطراف النهر مواخير لذتهم وحرامهم، وألقوا بغاثهم بدل القرابين، واحتطبوا الشجر، وسالت إلى الماء العذب مخلفاتهم السوداء، وتحولت المصاطب الحرة إلى دكاكين، وسقطت عن حجارة الجبل المحيط عبارات الحب.
على امتداد الشجر الكثيف.. حيث يحب بردى الجري واللعب، زرعنا في طريق بهجته مزارع الجلد والرخام، ماتت رائحة الياسمين والورد الشامي والجوري، وصارت الدباغات رائحة النهر، تساقط البنفسج، وذبلت شقائق النعمان، وصار المشمش والرمان والخوخ مجرد تذكارات عن المكان الذاهب إلى النسيان.
في المدينة... كان النهر العزيز يشق الحواري والشوارع، ويسميه الناس بأسماء قادتهم وأماكنهم الغالية، كان النهر ذاكرة الشام وعروسها، من جسر الرئيس وعلى امتداد الشارع الطويل الذي يصل إلى ساحة الأمويين كان النهر يبعث الحياة والفرح، معرض دمشق الدولي وأيلول، آخر الصيف حيث الناس على موعد ليس على الشراء والفرجة، بل على موعد يشبه الذهاب للاغتسال من حر الصيف.. بلفحة برد معها رائحة شتاء قادم.. ونهر لا يخذل العاشقين.
منذ أن صار الحب هدية حمراء، وحمالة مفاتيح مذهبة، سهرة فاخرة، مواعدة ولهاثاً.. وصار بردى مجرد ماء تحت مقهى في الربوة، وحاوية لرمي بقايانا.. علب الكولا والريان والنطاف الطائشة.. صار بردى ساقية.. مشروع طريق، حديقة من بلاط.
منذ أن صرنا بلا أوقات للتنزه، وبلا روح، ومنذ أن تحولنا إلى كائنات تلهث وراء رغيف الخبز، وعمل آخر، وبائعي يانصيب ودخان وبوظة الصيف حول النهر، ومنذ أن نسيت أيدينا شعور البرد في عز آب، وضاعت بصمات أقدامنا في الماء البارد، ومنذ أن اختفت من شوارع دمشق سبل الماء، صار بردى علباً وزجاجات وعبوات تباع مثل سلعة في دكاكين الاستهلاك.
على هيئة فينيق يستفيق، وإله مذعور من رجسنا، وحسناء فاجأها حلم على شكل حبيب مات من الغيرة والقهر، يقوم بردى من سباته المزعوم، ويركل المراهنين على رحيله، كما كل المكنونات في أعماق هذا الشرق المضطرب، والتاريخ المدفون في أعماق ترابه، وما تبقى من تاريخ على ظهر يابسته.. النهر تاريخ.
يحفظ بردى عن ظهر قلب الصراع على هذا الجزء من العالم، والحضارات التي مرت، والموسيقى التي عزفت على ضفتيه، الريح التي لامست مياهه لحظة هبوب الشتاء، الشمس التي داعبت وجهه في الصيف، الأطفال الذين لعبوا حوله وفيه وصاروا كباراً فيما بعد.. أزواجاً، دهاة، لصوصاً، فقراء، أيتاماً، زعراناً، عاهرات، قوادين، رؤساء مخافر، بلديات، موظفين في القطاع العام، الخاص، ممرضات، أساتذة، كتاب تقارير، أمناء مستودعات، سجناء.. مواطنين يستحقون الدعم، لا يستحقون، محافظين، وزراء، أعضاء في مجلس الشعب.. الشعب.
يحفظنا بردى عن ظهر قلب، نحن الذين نتذكر ولا ننسى، نخبو مثله لكننا لا نستسلم، ننام على هيئة الموتى، لكننا لم نمت بعد، نحن سكان المكان الأقدم.. والنهر الذي لا رهان عليه.