«صوت الشعب» اللبنانية: وللفقراء إذاعتهم أيضاً
تتزاحم في أجوائنا إشارات مختلف المحطات الفضائية والإذاعية، حيث صار التقاطها سهلاً ولم يعد محصوراً بجهاز الراديو أو التلفزيون، بل وصل إلى الكمبيوتر والهاتف المحمول وغيره. حتى ليخيل للمتابع أنه سيأتي يوم يخرج إليه صوت مذيع الأخبار من صنبور الماء عندما يفتحه للشرب. غير أن هذا الاختناق الفضائي، ورغم الإدمان على التلفزيون، لم يقدم للمتابع جديداً يمس حياته ويكون مغايراً لما كان سائداً قبل الطفرة الحالية. فأخبار المشاهير وبرامج المسابقات والأغاني جميعها تبتعد عن هموم المواطنين الفقراء الذين يشكلون الغالبية في المجتمعات العربية. حتى إن المسلسلات التي تحكي قصص البسطاء والمسحوقين باتت تقدم بشكل يعطي جمالية للفقر والحرمان. ولا تختلف المحطات الإخبارية التي تقدم الأخبار بشكل درامي يفقد المتابع أية قدرة على التعاطف أو اتخاذ موقف ما.
في هذا الزحام تبرز إذاعة «صوت الشعب» اللبنانية الخاصة التي اعتاد على سماعها سكان الساحل السوري وأجزاء من مدينة حمص على مدى العشرين عاماً الأخيرة. وقد تميزت الإذاعة منذ نشأتها بالاختلاف عما كان سائداً من إذاعات طائفية ومناطقية وحزبية تحرض على الانعزال والفتنة والاقتتال. لكن بث الإذاعة تقطع في الفترة الأخيرة، وكان إرسالها يختفي عن مناطق الشمال إلى أن أطلقت مؤخراً بثها على شبكة الإنترنت في خطوة لتقريب المسافة بين الإذاعة ومحبيها، محبي الصوت الحقيقي والنهج الوطني الديمقراطي الصحيح في كل أنحاء العالم.
و«صوت الشعب» هي صوت للفقراء والضعفاء وصوت المهمشين والباحثين عن لقمة العيش والحرية، إذاعة للتنوير والدفاع عن الطبقة الكادحة. إنها صوت فلسطين، وصوت المقاومين الوطنيين ضد الاحتلال الإسرائيلي أبطال جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية أصحاب المشروع الديمقراطي التنموي البديل عن المشاريع الطائفية، الذين حرروا بيروت من الاحتلال الإسرائيلي، ولاحقوه فدحروه من صيدا وصور وصولاً إلى الشريط الحدودي قبل أن تنتقل البندقية من كتفهم إلى كتف المقاومة الإسلامية نتيجة تغير ظروف المنطقة.
انطلق بث الإذاعة في 31 كانون الثاني عام 1986 بعد عامين من البث التجريبي. ونالت الترخيص بتاريخ 23/7/1997 كـ(إذاعة من الفئة الأولى) بعد نضال طويل ومرير للقائمين على الإذاعة وجمهورها ضد التوجه الذي كان سائداً وقتئذ والذي كان يخطط لإغلاقها.ففي تلك الفترة طرح مجلس الوزراء اللبناني الذي كان يرأسه رفيق الحريري مشروعاً لضبط البث الإذاعي والتلفزيوني في لبنان، بعد أن تكاثرت محطات الإذاعة والتلفزيون، وبعد أن ضاق صدر الحكومة ذرعاً بالأصوات التي تشوش على مخططاتها.والتي كان مشروع سوليدير لوسط بيروت أبرزها وأكثرها وحشية حين ألغى تاريخ مدينة وحاضر سكان فقراء كانوا يقطنونها أهينت كرامتهم ووجدوا أنفسهم فجأة أمام مصير مجهول ليس أقله التشرد.
إذاعة «صوت الشعب» قاومت هذا التوجه واستنفرت الشعب اللبناني للدفاع عن ذاكرة عاصمته، فقامت بفضح كل الخطط التي تحاك ضد المدينة وفقرائها وضد لبنان عموماً. وهو ما أزعج الحريري الذي كانت إذاعته نفسها «إذاعة الشرق» تقوم بالتشويش على «صوت الشعب» من حين إلى آخر. فاتجهت الحكومة نحو إغلاق الإذاعة مع العلم أنها كانت الوحيدة التي سارعت لتسوية أوضاعها واستوفت الشروط المطلوبة للحصول على الترخيص. وأخذ الضغط على الإذاعة أشكالاً كثيرة، منها حصارها وحرمانها من التمويل بفعل سيطرة الوسائل الإعلامية التابعة لقوى وطوائف، نشأت وتكرست بعد اتفاق الطائف، على سوق الإعلان وتجييره لمصلحتها. إضافة إلى الاتجاه الذي ظهر من تفرد بعض القوى الطائفية بالقرار السياسي للمناطق التي كانت يوماً معاقل لليسار والقوى العلمانية بعد تغير الظروف نتيجة انهيار الاتحاد السوفييتي ودخول قوى إقليمية مثل إيران بقوة إلى الساحة اللبنانية، واتجاه هذه القوى لإسكات الصوت العلماني التغييري في لبنان وإقصائه عن العمل السياسي.
وقد وصل الأمر وقتئذ إلى حد المقايضة بين بقاء «صوت الشعب» مقابل عدم الترخيص لتلفزيون «الجديد»، وهما الوسيلتان اللتان تتبع ملكيتهما للحزب الشيوعي اللبناني، فتمت التضحية بالتلفزيون بسبب تراكم أعبائه المالية نتيجة الحصار الإعلاني الذي مورس عليه وحرمانه من التمويل. فبقيت الإذاعة وأقفل التلفزيون بعد قرار الحكومة الحريرية في 17 أيلول العام 1996 والقاضي بإقفال جميع محطات التلفزيون والإذاعة في لبنان باستثناء محطة تلفزيون الدولة وحصر البث الإذاعي والتلفزيوني في عدد من المحطات التي وزعت طائفياً وسياسياً. غير أن التلفزيون عاود البث من جديد عام 2001 إثر حصوله على الترخيص حين تولى سليم الحص مهام رئاسة الحكومة لكن بشركاء جدد امتلكوا نسبة 80% من مجموع الأسهم.
منذ انطلاقة هذه الإذاعة وهي تحمل التميز والفرادة على صعيد البرامج والأخبار التي قاربت القاع. فاقتربت من قضايا الناس بشكل لم يكن مطروقاً من قبل, وزارت أماكن سكناهم وعملهم عبر طاقم جيد ومدرب وشبكة كبيرة من المراسلين. ففي حين ترأس مجلس إدارتها الكاتب حنا صالح مؤلف كتاب «أفغانستان الثورة»، استقطبت الإذاعة العديد من الفنانين والكتاب والشعراء والمخرجين اللبنانيين، أمثال الشاعر جوزيف حرب، والمخرج المسرحي يعقوب شدراوي، والباحث التاريخي مسعود ضاهر، والكاتب أحمد علي الزين، والفنانين أحمد قعبور وخالد الهبر وزياد الرحباني, وفرقة صلاح تيزاني (أبو سليم) وغيرهم. وفي حين قدم كل منهم مساهمته في مجال عمله, تميزت مساهمة الفنان زياد الرحباني بالفرادة التي استقطبت الجمهور, فقد أعدّ وقدم العديد من البرامج التمثيلية مثل برنامج «العقل زينة», والموسيقية التي أراد منها التعريف بأعلام الموسيقا العالمية, وتقنيات العزف, والفروق بين موسيقا الشعوب.
أما الأعمال الأدبية والشعرية فقد نالت نصيباً كبيراً من فترات البث. فقد قدمت المسرحيات العالمية والعربية والروايات بشكل تمثيلي جعلها أقرب إلى أذن المستمع. أما على الصعيد الإخباري فقد نجحت الإذاعة بداية تأسيسها بالتحول إلى الإذاعة الأولى في لبنان دون منازع لعبت خلال تلك الفترة دوراً ريادياً نتيجة تغطيتها للأحداث في لبنان والعالم.
في أيار من العام 2005، تنادت مجموعة من محبي ومستمعي الإذاعة من كل المناطق اللبنانية لتأسيس نادٍ باسم «نادي أصدقاء إذاعة صوت الشعب» سعياً لانتشال الإذاعة من أزمتها المالية القائمة. يقوم النادي بسلسلة من النشاطات الفنية وغيرها لجمع التبرعات والمساهمات لدعم الإذاعة وتحديثها وتغطية بعض مصاريفها. أما بثها على الإنترنت فهو على الرابط www.sawtashaab.com الذي نتمنى أن نتمكن من الدخول إليه من سورية، لأننا أحوج ما نكون إلى هذه الإذاعة في ظل الغزو الإعلامي المخيف.