مطبات: تباشير رمضانية
أدهشني بثقته على تجاوز شهر الصوم دون عناء، وقلت في نفسي هذا يعود ربما إلى إيمان كبير، وثقة بالنفس البشرية في تحديها للجوع والعطش،2 لكن ما زادني دهشة إيمانه الأكثر شدة بتجاوزه رغم تباشير الغلاء.
تابع الرجل الواثق سرد قدراته الخارقة، قال إن الله يبلي ويعين، وسوف يفرجها علينا، وقال بهمس المقرب: والله يا أخي لا تعرف كيف تفتح أبواب الرزق، هذا شهر (فضيل)، لهذا أسموه رمضان كريم.
في داخلي كنت أتمنى أن أقبل الأمر كما الرجل، وأن أشعر بقدرتي في التغلب على مصاعبي المادية، ربما يقول البعض إن السبب هو ضعف الإيمان، والواقعية الزائدة، وكثرة مصاريف المثقفين غير الضرورية، و(الفذلكة) الحياتية التي تميزهم، وتكبيرهم للأمور الصغيرة.
من باب الواقعية الذي قد يكون الأصوب، ومن منظور عدم القفز فوق ما نرى ونحس، تبدو القصة مكررة كمسلسل باب الحارة الذي تعيد قناة دراما بث أجزائه الأربعة لتحضرنا لجزئه الخامس، ففي أسواقنا العامرة بدأت الحلقة التي تسبق شهر رمضان، فعلى سبيل المثال من عقدتنا السنوية التي تسمى البطاطا فقد طار سعرها من 20 ليرة قبل أسبوع إلى 30 ليرة منذ يومين، وكانت قبل أقل من شهر تباع بالجملة بـ15 ليرة.
البيض عقدتنا الثانية، والذي أقيمت له الندوات، وكتبت فيه العرائض والمقالات، سعر الصحن ذي الثلاثين بيضة قفز من 90 ليرة إلى 120 ليرة، وقبل شهر تقريباً كان ينادى عليه في الأزقة بـ75 ليرة، ونسف هذا البيض المقولات التي تدور حوله، فانخفاض سعره لا يأتي إلا في عز الحر، ومن الغريب أنه كسر المعادلة رغم أنف موسم الحر الهندي.
الفروج مثال ثالث من عقدنا الغذائية أكمل مسيرة صعوده، صعود كل أجزائه، من الصدر، الأفخاذ، الدبوس، وحتى سودة الدجاج زاد احمرارها، وصار الأسعار يحسب لها حساب.
ولكي نزيد قليلاً من الواقعية على مشاعرنا السوداء، ونفسنا المكتئبة، كل ما ذكرناها مؤشرات نحفظها نحن المواطنين الذين يقل إيماننا بقدرة من بيده الحل، وزيادة إيماننا بحدسنا العالي في شم المتغيرات، فخلال السنوات السابقة لم تستطع جمعية حماية المستهلك التي يقودها بعض (الشبعانين) حمايتنا، ولم تستطع مديرية حماية المستهلك من ضبط السوق على قدر دخلنا غير القادر على إعالتنا، وكذلك لم تنجح كل مؤسسات التدخل في خفض الأسعار أو حتى ضبطها، وكل قوى الرقابة في منع الغش والاستغلال من أن يقع علينا من التجار الذين يملكون الصعود والهبوط كالبورصة في مضاربات السوق المحلية.
أيام رمضان على الأبواب، وهاهم المواطنون يستعدون لفطوره وسحوره، وهم يعرفون ماذا ينتظرهم أثناءه من فائض في المصروف، أضف إلى ذلك الحسابات الصعبة لما بعده، العيد والمونة والمدارس، الثالوث الذي مللنا ترداده، وملوا هم من المرور من ثقب إبرته، كفيلة تختنق.
ربما يحقق رمضان بعض المتعة للمصابين بعقدة الفقد، سيمر الفروج على الموائد أكثر من مرة في هذا الشهر على غير المعتاد، فحتى الفقراء يفعلونها من صدقة أو حلم، وهم الذين تخلوا عن اللحم البلدي الذي صار يشبه ذكرى قديمة، وربما في القادمات من أشهر العبادة تقام له الاحتفالات..لكنهم رغم ذلك يدركون كم سيكون ثمن هذا العبور غالياً، وثمن هذه المتعة قد يكون بعض البرد في موسم المازوت، وديون سترتب على موسم المدارس، ونقصان في المكدوس من مونة الشتاء.
سامحنا يا أخي إن كان إيماننا ناقصاً، فالتباشير الرمضانية بداية لموسم طويل من الركض يسلمنا إلى موسم ركض جديد، يشبه رياضة جري التتابع ركض يسلم العصا إلى ركض.. وكل رمضان وأنتم بخير.