أنطـولوجيـا الــنثر (1 / 2) حين تكسَّرت الموجةُ ذاتُها

كثيرٌ من نقّاد الأدب يجزمون أن هذا زمن النثر، لذا تراهم يحتفون بالرواية بوصفها ملحمة العصر الحديث. والنثر يستحق هذا التمجيد لأنه استطاع التعبير عن روح زمننا المعقدة باقتدار لا يستطيعه الشعر بحكم طبيعته.

يقولنا النثر ويروينا.. يلج أعماقنا وينضح رغباتنا، لأنه متشرّب بالتجربة الإنسانية وقوّة رغبة الوجود!!

ونحن البشر نثر مرسل، مرة نتخذ شكل حكاية، ومرة أخرى نكتسي حلة تاريخ.. هكذا يكون النثر مرآتنا وصورتنا في زحمة هذا العالم الذي يحترف إخفاء الوجوه.

هنا تجوال بين نصوص نثرية من مختلف لغات العالم، نقدمها كنوع من الاحتفاء بالنثر وفنونه.. ونبدأ هذا الملف بمختارات من سرود نثرية عربية، على ان تكون الحلقة الثانية مخصصة للنثر العالمي..

 

جبرا إبراهيم جبرا (فلسطين)

 جبرا إبراهيم جبرا (1919ـ 1994) هو مؤلف ورسام، وناقد تشكيلي، فلسطيني ولد في بيت لحم في عهد الانتداب البريطاني، استقر في العراق بعد حرب 1948. أنتج نحو 70 من الروايات والكتب المؤلفة والمترجمة.

 

رواية من شخصين

أتمنى لو أنني أكتب في يوم رواية عن شخصين فقط. رجل وامرأة. قصة حب أعزلها عن كل ما يحيط بها، كما تُعزل نقطة دم صغيرة على شريحة زجاجية للتأمل فيها تحت المجهر. وأنا أشعر أنني بذلك سأحقق نوعا من العودة إلى الجنة، الجنة الأولى، تلك التي خلقها الله لآدم وحوّاء دون غيرهما، وجعل طيبات الدنيا ملكاً لهما، وألتقطهما في لحظة الغواية المزلزلة، تلك التي يكتشفان فيها كلاهما شدة حضور الآخر، وجذبه اللذيذ القاسي الذي لا يمكن أن يُرد. إنهما بذلك يكتشفان كيف تتفجر أنساغ الحياة، وكيف يكون الخلق بمعانيه كلها. وفرحهما الواحد بالآخر إنما هو فرح الألوهية بالخلق، لعل الأفعى كانت على كثير من الحكمة والمعرفة عندما قالت لحواء ما قالت.

من رواية «يوميات سراب عفان»

مؤنس الرزاز (الأردن)

(1951-2002) ابن المناضل الأردني منيف الرزاز الذي عاش في الأردن فترة من حياته. له عدد كبير من الروايات ونشرت أعماله الكاملة عام 2003 بعد وفاته. من رواياته: أحياء في البحر الميت، جمعة القفاري ( يوميات نكرة)، اعترافات كاتم صوت، حين تستيقظ الأحلام.

وجه يندلق

أحد الأطباء، وكان أصلع الرأس صقيله، قال إنني ظاهرة مدهشة فريدة، يقف لها شعر الرأس ذهولاً. لكن شعر رأسه هو لن يقف ذهولاً لأنه أصلع. قال لطبيبي الأردني، بعد أن فحصني بدقة، وسألني أسئلة أجبت عنها بلغة إنكليزية بينة بليغة مستشهدًا بين الحين والآخر، بمقطع لشكسبير، أو مؤكدًا وجهة نظري بقصيدة كاملة (لديلان توماس) أو (والت ويتمان)، إنني عبقري غير سوي. أعاني من فصام غريب فريد لا عهد له به. ورنوت إلى رأسه الصقيل، فلم أر شعرة تقف وتنتصب. ليته كان ذا شعر غزير. ما أجمل الشعر حين ينتصب دهشة. أنا لم أر رجلاً ينتصب شعره هولاً في حياتي. لكن عينيه كانتا جاحظتين، وخفت لوهلة أن تندلقا من محجريهما فيتبعثر كل ما فيهما من صور مختزنة على أرض العيادة النظيفة الباهرة. لا بد أنه سافر كثيرًا، وأقام علاقات لا تعد ولا تحصى. وتناسيت وجود الطبيبين، إذ راقت لي الخاطرة، ورأيت العينين تندلقان من المحجرين، فتتناثر الصور المختزنة فيهما. رأيت تمثال الحرية يتهاوى على الأرض ويتحول إلى حطام، ورأيت ساق امرأة زنجية، ومقعدها المفضل في الحانة التي أدمنت التردد عليها.. تتداعى على الأرض الصلبة دون جلبة.. آلاف الأشياء والوجوه والأماكن والصفحات والأوراق والأقراص.. تندلق مع العينين المسحوقتين على الأرض. وانتزعني صوته من هول المذبحة الصاخبة لذاكرة فقدت عينيها، سألني وهو يهز منكبيه:

- هل تحفظ كل ما تقرأ؟؟

قلت دون تردد:

- عن ظهر قلب، ومن المرة الأولى. أحفظ القرآن الكريم، وشكسبير، والمعلقات و... لا أقول إني أفهم كل ما أقرأ. لم أقل ذلك. قلت أحفظ.. أ.. ح.. ف.. ظ..

من رواية «الذاكرة المستباحة» 

عبد الرحمن منيف (السعودية)

(1933ـ 2004) يعد أحد أهم الروائيين العرب  في القرن العشرين؛ حيث استطاع في رواياته أن يعكس الواقع الاجتماعي والسياسي العربي، والنقلات الثقافية العنيفة التي شهدتها المجتمعات العربية خاصة في دول الخليج العربي أو ما يدعى بالدول النفطية، ربما ساعده في هذا أنه أساسا خبير بترول عمل في العديد من شركات النفط مما جعله مدركا لاقتصاديات النفط، لكن الجانب الأهم كان معايشته وإحساسه العميق بحجم التغيرات التي أحدثتها الثورة النفطية في صميم وبنية المجتمعات الخليجية العربية. 

الإنسان عندما يكون مع الآخرين

• «الحياة حفلة قتل لا تنتهي».

• «فكّرت: استحقاق الموت معناه حالة من الحركة الدائمة، حتى حالة النهاية تعبير عن حركة. نحن حالة من الاهتراء ، الانسراب إلى الداخل دون حركة، دون فعل، تماماً مثلما تغور المياه في باطن الأرض، إنها لا تفعل شيئاً، إنها تنسحب إلى الداخل رغماً عنها. لا تقاوم، لا تحتج، لا تنتظر!».

• «أعجب شيء يا وردان أننا نجد الطير بسرعة عندما نكون معاً لما أكون وحدي أفقد الاتجاه، وتضيع الطيور، يجب ألاّ نفترق، بعد الآن، يا وردان!»

• «وفكّرت: الكهرباء قوة لا ترى، لكنها لاتحد، كذلك إرادة الإنسان، تصميمه،

والإنسان عندما يكون مع الآخرين يتحول إلى شيء خارق لا يمكن مقاومته أبداً».

من رواية «حين تركنا الجسر» 

سليم بركات (سورية)

 سليم بركات روائي وشاعر وأديب كردي من سورية من مواليد عام 1951 في مدينة القامشلي، سورية.. انتقل في عام 1970 إلى العاصمة دمشق ليدرس الأدب العربي ولكنه لم يستمر أكثر من سنة، ولينتقل من هناك إلى بيروت ليبقى فيها حتى عام 1982 ومن بعدها انتقل إلى قبرص وفي عام 1999 انتقل إلى السويد.. 

 هذه رموزنا

«إننا نحب كيفورك لأنه تغلب على ستة رجال مسلحين. نحب كنعان لأنه يدخل أية دار سينما مجاناً. نحب شرو العتال لأنه يتقاضى أتعابه من تاجر الحبوب، من دون أن يحمل كيساً واحداً على ظهره، وهو عنيد وسريع في إشهار خنجره.. دخل السجن سبع عشرة مرة. هذه رموزنا»

من سيرة الطفولة «الجندب الحديدي» 

البغل الأعمى

حين تكسَّرت الموجةُ ذاتُها، موجةُ الدَّلبْوت والقُنَّبِ، وئيداً خرجَ البغلُ الأعمى بقطيعهِ الأشْقَرِ من البغالِ العمياء. وكانَ انْ تَجَمَّعَتْ حولَهُ العجولُ الشريدةُ، وهرولتْ إليه التَّيَاتِلُ فوْجَاً فَوْجَاً كأنَّها تَنَسَّمَتْ غبطةَ العَرَاء بالقوائمِ الأقوى، ولامَستْ خَطْمَها شُعاعاتُ الصَّخبِ النَّحيلةُ في زحامِ الحوافرِ... وكيف لا تهرولُ التَّيَاتِلُ والعجولُ، إذْ يرتدي الغبارُ قناعَهُ المحبوْكَ من الجلودِ الحيَّةِ، وتهزُّ العذوبةُ قَرْنَيْها المُلْتَفَّيْنِ كَقَرْنَي ذَكَرِ الْكَوْدِ احْتِفَالاً بالوريثِ الأعمى لأرضِ العَمَاء؟.

يقيناً أيها البغلُ يقيناً أنّكَ نَصْلُ انْبِثَاقٍ غامضٍ في السُّكُونِ المُجَمَّعِ الصَّلْدِ كَبِلَّوْرَةِ الخَواتم.

من «الجمهرات» 

■إعداد: ر . و