بين قوسين: بلا رأس
يأخذ العرّافون والمنجمون طوال أيام السنة، حيّزاً محدداً وثابتاً في معظم وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، يضعون نحو سبعة مليارات إنسان في اثنتي عشرة خانة، ويجمعون «حملاناً وجدياناً وحيتاناً ودلاء وعقارب وأسوداً...» بنغلادش والكونغو والسويد وكندا... في سلة واحدة، ثم يشرعون في قراءة طوالعهم كل على حدة، فيوجّهون خطواتهم ويرسمون مصائرهم بالتحفيز تارة، وبالتحذير تارة، وبالوعود الواهية مراراً وتكراراً.. يزوّجون ويطلّقون ويعقدون الصفقات ويوفّرون فرص العمل والحب والمصالحة والسفر، وينبّهون من الأمراض والمخاطر الطارئة ومن الأصدقاء والجيران والشركاء وزملاء العمل وأفراد العائلة، ويخمنون أيام وساعات وأرقام الحظ وتواريخ الرياح المؤاتية والمعاندة... مستندين في كل «رؤيا» يومية يطلقونها إلى حركة كواكب وأجرام يدركون جيداً أن «مريديهم» لا يعرفون عنها وعن تأثيرها شيئاً.. دون أن ينسوا، على الغالب، اختتام توقعاتهم بجملة: «... والله أعلم».
وإذا كانت حال العلاقة بين المنجمين والناس على هذه الشاكلة في الأيام العادية: طرف يدغدغ الأحلام (بالمفرّق) على سبيل التخمين، وطرف يقعد (بالجملة) منتظراً تحقّقها.. فإنها في فترة رأس السنة التي قد تمتد شهراً كاملاً، تتحول إلى محاولة إحداث استلاب كامل: طرف يعرف كل شيء يقيناً عن حولٍ آتٍ، ويقرر كل ما سيحدث فيه على أنه قدر محتوم، وطرف عليه أن يتقبّل كل ما يقرره الأول بكل رضا وتسليم! إذ لن يحدث شيء خارج نطاق توقعات المكشوف عنهم الحجاب.. وهكذا يمسي العرافون فجأة أطباء ومحامين وبيئيين وسياسيين واستراتيجيين وقضاة مطلقي القوة والمعرفة، فيحددون بالضبط ما سيكون وما لن يكون على صعيد الأفراد، ويشيرون إلى مناطق وأوقات الحروب والانقلابات العسكرية والفيضانات والزلازل والأوبئة والمجازر والأعمال الإرهابية، ويشرحون مآلات الأزمات الاقتصادية والسياسية والمالية ومواعيد الانفراجات... على الأصعدة العامة والدولية.
ما يثير الريبة في هذه المهزلة الدورية هو خفوت أصوات معظم المحللين الاستراتيجيين والباحثين ورجال الدين والقادة السياسيين والعسكريين، ولا أسف عليهم، حين يبدأ «فلكيو» وسائل الإعلام بتسيد العدد الأكبر من التلفزيونات والإذاعات ومواقع الإنترنيت الإخبارية والفنية ومنتديات الحوار في فترة رأس السنة، وكأن المسألة لا تتعدى كونها تقاسماً وظيفياً فيما بينهم للعبث برؤوس الناس وحشوها بأشياء محددة سلفاً.. وتوجيهها بدقة.
في رأس سنة 2011، كما في رؤوس السنوات القليلة الفائتة، بدت صورة العالم كما رسمها المنجمون على الشاشات شديدة القتامة، ولا جدوى من القيام بأي فعل جماعي لجعلها أقل سواداً أو أخف وطأة، أما النواحي الخاصة بالأفراد فهي مليئة باحتمالات النجاح والنجاة لمن يحسنون التصرف بعقلانية ودون تهور، وكل ما يتطلبه الأمر من «الثور» الفرد و«القوس» الفرد و«الميزان» الفرد... أن يراعي ما يقوله المنجم العارف ليحقق معظم طموحاته الفردية.. ومن يخشى على نفسه من شر نسيان الأرقام والمواعيد المناسبة لإنجاز وثبته الموفقة فما عليه إلا التوجه إلى المكتبة الفلانية لشراء كتاب توقعات المنجّم الفلاني للسنة الفلانية، وفي ذلك ضمانة للدقة لتنفيذ الوصايا بحذافيرها..
الرأس.. هو قمة كل شيء.. مكان أو مكانة أو عضو يفوق سواه إطلالة أو تميّزاً أو وظيفة أو جوهراً، وإذا ما استُهدف قطعاً أو لكماً أو تجويفاً أو تقعيراً أو تثبيطاً، فإنه يصبح اسماً بلا محتوى وبلا فائدة، وتمسي استطالاته وأطرافه وحواشيه نوافل عمياء لا قيمة حقيقية لها.. هذا ما يحصل اليوم مع معظم الرؤوس في رؤوس السنوات.. فهل نتمنى أن تكون كل سنة جديدة قادمة بلا رأس، ليحافظ البقية الخارجة عن إرادة المنجمين على رؤوسهم من التلف؟.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.