غياث رمزي الجرف غياث رمزي الجرف

المثقف.. شاهداً وشهيداً

«المثقف هو الشاهد على المجتمعات الممزقة التي تنتجه، لأنه يستبطن تمزقها بالذات، وهو بالتالي ناتج تاريخي. وبهذا المعنى لا يسع أي مجتمع أن يتذمر ويتشكى من مثقفيه  دون أن يضع نفسه في قفص الاتهام، لأن مثقفي هذا المجتمع ما هم إلا من صنعه ونتاجه...». (جان بول سارتر).

بعد أكثر من خمسين سنة أذكر أن لي عمراً قد ذاب كما يذوب العاشق المدنف في حضرة «عشتار».. وأن لي روحاً قد شردت في فضاءات لا تحد ولا تطال.. بل قد تكون فضاءات وهمية مستحيلة لا وجود لها مثل الغول والعنقاء.. وأذكر أن لي حياة قد أفنيتها في «الانتظار» و«الأحلام» و«الأوهام»، وفي «رأس المال» و«الوجود والعدم».. في «الحلاج» والحلولية، وفي الكتب المقدسة وغير المقدسة. في حركات التحرر العربية والعالمية، وفي التغريد خارج السرب والوقوف في وجه التيار.. في الظباء الغيد والسلافة الصوفية والأرضية، وفي التوضؤ بالمحبة والوداد وبالحزن الإنساني النبيل وفي..

وبعد أكثر من خمسين سنة أذكر أني كنت، ومازلت، أجري لاهثاً، ملهوفاً، محترقاً، ملوعاً، بائساً «هامليتاً»، قلقاً، خائفاً وغريباً.. من مكان إلى آخر ومن حلم إلى صنم و من كتاب إلى سجن، ومن صديق إلى قاع، ومن امرأة إلى انشطار روح، ومن عنب وتفاح إلى شجن، ومن هاجس قلم وحرف إلى اشتعال صدر وانفجار رأس، ومن صحب إلى عدم، ومن أهل إلى اغتراب، ومن أمل إلى انكسار، ومن قصيدة حب إلى جنازة، ومن «سكن» إلى عراء، ومن فرح أصغر من أية أرض بلا قلب، ولا حنين، وبلا عشاق.. إلى حزن وسع السماء والأرض وما بينهما، ومن لفافة تبغ، ولهفة و رأفة، وصهيل جواد أصيل، وموسيقا و وطن، ومن..

ما عدت أقوى على الكلام، ولا على هذه العتمة المدلهمة.. فبعد خمسين سنة ونيف لم أعد أذكر إلا الفراغ والحطام والانكسار والوحدة الأزلية، والقهر الاجتماعي المفتوح على كل الألوان والأنواع والحالات، والاستغلال بكل اصنافه وأشكاله بدءاً بالاستغلال الأسروي انتهاء بالاستغلال النظاموي.. ولم أعد أذكر إلا استبداد السياسي والثقافي والاقتصادي والنفسي والعاطفي.. والانتهازية والانفصامية والازدواجية والانهيارات الأخلاقية والقيمية والروحية.. وهذه العلاقات البشرية المجتمعة المتردية، المشوهة|، المتمزقة والمتفسخة.. وأشياء أخرى لم أعد أذكرها، أو أنها لا تريد أن ترى النور الذي غدا تحت حوافر الطغاة والقتلة، القدامى والمحدثين، ظلاماً مبيناً...

وبعد مئة سنة ونيف أذكر أن المفكر الرائد، الجريء، المغتال (عبد الرحمن الكواكبي) مازال حياً بيننا، ينادينا، يشد على ايادينا، ويدلنا على الصراط المستقيم.. فهذا «المثقف» الحقيقي الذي منح، بجدارة موصوفة، ملامه وكتاباته سمة الشمولية والديمومة في أكثر من مفصل خاصة في كتابه الفذ «طبائع الاستبداد» المعاصر والراهن على الرغم من مرور عشرات السنين عليه.. هذا «المثقف» الذي وقف حياته على مناهضة الظلم ومقاومة الاستبداد، ودفعها، أي حياته، ثمناً لجهره بآرائه «الثورية» وفكره التحرري، فمات مسموماً (..؟) في مصر التي التجأ إليها بعد أن تعرض للمضايقات والأذى والاضطهاد والسجن في مرحلة السلطة القاهرة للاستبداد.. هذا «المثقف» بامتياز استطاع باقتدار معرفي اكتشافي، إن جاز التعبير، وبحس نقدي عالٍ أن يجيب عن الأسئلة الأساسية والجوهرية التي أفرزها واقع عاصره (الكواكبي) عاشه أثناء الاستبداد العثماني الذي هيمن على العرب في مرحلة مظلمة من تاريخهم.. كما استطاع عبر قراءاته المعمقة لواقعه المعيش وعبر أسئلته وإجاباته، أن ينتقل من الخاص (واقع عصره) إلى العام (أفق متطاول رحب المدى..) مستنداً في ذلك كله إلى ثقافة عربية واسعة... وإلى ثقافات أخرى، لاسيما الثقافة الفرنسية ممثلة بشكل خاص بمبادئ الثورة الفرنسية وأفكارها التحررية.. إلى جانب معرفته العميقة بالعلوم الدينية.. والآن، اقرؤوا هذه الكلمات التي كتبها المفكر و«المثقف الملتزم» عبد الرحمن الكواكبي في «أم القرى» منذ ما يزيد على قرن من الزمان، وجاءت وفقاً لحقبتنا المعاصرة وحالتنا الراهنة.. فكروا بها، تأملوها، اصغوا لها، واستمعوا، بعقولكم وقلوبكم وأرواحكم، إلى هذه الصيحة الجريحة، المؤلمة، الغاضبة، المحتجة والرافضة لما هو كائن (..؟) والداعية في طياتها إلى أن نفيق من سباتنا الثقيل الوجيع الذي طال وطال حتى استوطنت حلو قنا المرارة...

وهي الصَّيحة نفسها التي أطلقها في سياق آخر، منذ أكثر من ألف عام، ترب الندى ورب القوافي، ابو الطيب المتنبي... وهؤلاء الواهنة عقولهم يحق لهم أن تشق عليهم مفارقة حالات ألفوها عمرها كما قد يألف الجسم السقم، فلا تلذ له العافية، فإنهم منذ نعومة أظفارهم تعلموا الأدب مع «الكبير» يقبلون يده أو ذيله أو رجله، وألفوا الثبات، ثبات الأوتار تحت المطارق، وألفوا الانقياد إلى المهالك، وألفوا أن تكون وظيفتهم في الحياة دون النبات، ذاك يتطاول وهم يتقاصرون... وهكذا فإن طاول الألفة على هذه الخصال قلب في فكرهم الحقائق، وجعل عندهم المخازي مفاخر، فصاروا يسمون التصاغر أدباً، والتذلل لطفاً، والتملق فصاحةً، واللكنة رزانة، وترك الحقوق سماحةً، وقبول الإهانة تواضعاً، والرضا بالظلم طاعةً، كما يسمون دعوى الاستحقاق غروراً، والخروج عن الشأن الذاتي فضولاً، ومد النظر إلى الغد أملاً، والإقدام تهوراً، والحمية حماقة والشهامة شراسةً، وحرية القول وقاحةً، وحب الوطن جنوناً (..؟!).

في ختام هذه المقاربة علينا التأكيد حتى الحد الأقصى على أن حضارات الأمم لا يصنعها إلا مثقفوها، وأي إرهاب (أو قتل) يتعرض له المثقف العربي ـ كما يقول الناقد والروائي المبدع جبرا إبراهيم جبرا إنما هو مساهمة في إرهاب (وقتل) الأمة وإقحامها في مستنقع اليأس.. ووجودنا اليوم يحتم علينا التشبث بالصحة العقلية التي تعني، أكثر ما تعني، أن يعطي العقل إلى العرب مداها الكامل، رغم المثبطات جميعها، وأينما كانت مصادرها...