الهيمنة والدعاية: أهمية التسخيف في تدعيم السيطرة الاجتماعية
إن المعرفة في المجتمعات الحديثة قد توسعت إلى درجة أصبح معها التخصص وشبه التخصص هو المعيار السائد. إذ أنه ليس من الممكن للشخص الواحد أن يلم بكل جوانب المعرفة في كل المجالات، فأصبح يتوجب علينا الاعتماد على الآخرين لتحصيل معرفة كهذه. وعادة ما يتم ذلك بصيغ بسيطة نسبيا. معظمنا يواجه بإطالة وضجر العديد من المفاهيم والأفكار التي تنهال علينا بكثافة في عصر السرعة وكثافة الاتصالات وفيض المعلومات.
يميل الناس إلى تفضيل السلاسة، ففي العديد من الأمثلة ومع عدم توفر خبرات كافية في قضايا معينة فإنهم يطلبونها. إنهم يطلبون المعرفة في عبوات معدة مسبقاً، حيت تُأخذ هذه العبوات بتسليم ودون برهان كمعلومات متفق عليها ، فيتمكنون من تناقلها بغض النظر عما يمكن أن تحويه من تضليل وتشويش.
إن السياسيين ووسائل الإعلام يدركون حاجة الناس للتبسيط، وهنا تكمن المشكلة، خاصة في عالم معقد ومشوش بشكل متزايد كعالمنا.
وفي سعيهم من أجل حشد الجماهير حول أفكار محددة وجعل الأمور يسيرة بالنسبة لهم، فإن هؤلاء يتخذون من (ادوارد برنايس) ملهما لهم، وهو المؤسس الأول للدعاية والإعلان والعلاقات العامة. هنا تتحول البساطة إلى تلاعب. لقد عرف برنايس كيف يتلاعب بجموع الجماهير وجعلهم يتعلقون بالمنتجات والقيم التي يقدمها المجتمع الحديث.
لقد أصبح كل شخص منا وفي كل يوم عرضة لهذا التلاعب من خلال ذلك الضخ المتواصل للإعلانات التجارية.
لاحظ ريك رودريك الأكاديمي الأمريكي المعاصر تلك النزعة نحو الابتذال والتبسيط والتسطيح، والتي تتفوق بها صناعة الإعلان، وهي حاليا المجال الأكثر إنتاجية عبر المجتمع.
كما أشار إلى ظاهرة متفشية ألا وهي تقزيم قضايا ومشكلات هامة إلى مجرد موضة عابرة، وذلك من خلال التكرار المتواصل، ومثال ذلك، الجدالات السياسية التي تبدو كمآزق مثل حقوق الشاذين، وقضايا الإجهاض، وبالرغم من أهميتها فقد أصبحت بالكاد مجرد جدل عقيم. بعض تلك القضايا الهامة قد نشرت في كل مكان إلى حد أنها أصبحت مجرد صرعة.
إن ذلك بالطبع لا ينفي أهمية تلك القضايا بحد ذاتها، وإنما المقصود هو تقليصها إلى حد تبدو فيه مجرد جدالات من مقتطفات خارج السياق، وقد يصل الأمر بذلك إلى أن يتوقف الناس بكل بساطة عن الاهتمام بكل هذا.
في مواجهة جوانب عديدة مختلفة وحركات كثيرة ومتباينة محتجزة كلها في جدال لا ينتهي، فإنه من السهل لذلك النوع من اللامبالاة وعدم الفعالية بأن ينتشر عبر الجماهير الواسعة.
بالإضافة لذلك، فقد تم اختزال العديد من القضايا إلى مجرد شعارات إعلامية مألوفة، فعلى سبيل المثال، إن عقودا من الكتابة الجدية في الفكر النسوي قد غٌيبت بصيحات الفريق البريطاني الغنائي (Spice Girl) الشهيرة (طاقة الفتاة) والتي تتردد في كل مناسبة. قضية جدية قد أصبحت تستخدم كحيلة تجارية لتسويق نمط غنائي معين. ما الذي تعنيه تلك العبارة (طاقة الفتاة)؟ من يهتم لذلك الآن؟ فقط أصدح بها عالياً .
لقد اعتمد باراك أوباما على مقولة "الأمل والتغيير"، والتي تعني كل شيء ولا شيء في الوقت ذاته. قد تحمل الاقتباسات الشهيرة في بعض الأحيان معانٍي هامة، إلا أن تكرارها مرات ومرات عديدة يوصلها إلى حدٍ تصبح معه دون معنى مطلقا ومجرد بلاغة مميزة .
كما أن هنالك كل تلك الإعلانات التجارية التلفزيونية لقنوات اللغة الانكليزية في الهند، والتي تقوم بتقليص كل شيء إلى القاسم المشترك الأدنى للبيع. أخرجي البياض من سمارك . (لم هذه العبارة المتعلقة بتفتيح البشرة والتي لا تعتبر عنصرية في الهند؟) لأنك تستحقينه. (إن تقدير الذات قد انحدر إلى مجرد استخدام طلاء الأظافر وملمع الشفاه) إنه مثير جداً، جداً ، (إن طبيعة الحس الجنسي قد تقلصت إلى تأثيرات العطور). إن القضايا الإشكالية هي أشكال سلعية تم اختزالها إلى عناوين لماركات في سوق البيع.
وهكذا فإن السخرية والاستهزاء تترافق جنبا إلى جنب مع كل هذا، حيث إن القضايا الكبرى إذا لم تلق مكانا بين الأقوال الطنانة بتكرارها، فإنها تتحول إلى مجموعة من النكات المبتذلة.
كان روك ردريك يفضل أن يشير إلى برنامج تلفزيوني قديم في الولايات المتحدة ليبين كيف يقوم المجتمع بترويج السخرية والابتذال وتقبل الطريقة التي تؤول إليها الأمور (والتي لا ينبغي لها أن تكون كذلك). برنامج (لافرن وشيرلي) والذي كان يبث من عام 1976 إلى عام 1983. حيث يوضح رودريك بأن لافرن وشيرلي يعملان في معمل للبيرة في ميلواكي، ولذلك فقد كان من الممكن أن يكون ذلك العمل فيلما اجتماعيا واقعياً، ولكنه كان مسرحية هزلية. كان لديهما صديقان أحمقان وقبيحان (حسب رودريك) وبشكل أساسي فإن حياتهما لم تكن جيدة ولكنها كوميديا. كل المتاعب المتواجدة في حياة الطبقة العاملة قد تحولت إلى مجرد هزل، وإلى ذلك الابتذال العام الشائع ومجموعة من النكات المتماثلة المكررة .
يمكن ملاحظة ظاهرة مشابهة لهذه في بريطانيا من خلال السخرية ونسب الشر لبعض الفئات الأشد فقرا من الطبقة العاملة البريطانية عبر وسائل الإعلام الرئيسية والعديد من المعلقين الاجتماعيين. وبالنظر إليهم كحثالة فإن حياتهم قد تم تسخيفها وتسطيحها والسخرية منها.
ناقش رودريك أيضا قضية مقتل جون كينيدي برصاصة مفاجئة في الرأس وكيف أن الحكومة الأمريكية، وكذلك الولايات المتحدة قد أصبحت تدار سريا منذ ذلك الوقت. قد يكون ذلك صحيحا وقد لا يكون كذلك، ولكن ومع مرور الزمن، حيث أصبح لدينا المئات من الكتب وعدد كبير من الأفلام عن جون. ف. كينيدي، أصبح الناس يميلون إلى إطفاء الشاشة أو هز أكتافهم ببساطة غير مبالين، ولسان حالهم يقول: حسناً، ربما يكون الأمر كذلك وربما لا، ولكن ما الذي يهم حقا في الأمر؟.. لقد أصبح الأمر عاديا لا يثير الاهتمام .
بالنسبة لرودريك فإن هذا مجرد مثال آخر عن كيفية التعامل مع قضايا ذات شأن هام وتحويلها إلى مجرد أمور تافهة.
هذا هو المطلوب تماما: التفاهة والاستهزاء والتي تجد تجسيداتها المطلقة في التعابير الساخرة واللامبالاة والقبول، والاستجابة لما هو سائد.
بالنظر إلى كل ما تتعرض له القضايا الكبيرة والمؤثرة بنا، بدءاً من الحرب النووية، وانتهاءً بالتدهور البيئي، فإن ما هو مطلوب فعلاً استبعاد الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والأفكار العظيمة.
ولكن هل حقا إن الحركات العظيمة وأفكار الماضي والتي كان بوسعها تقديم الإلهام لقضايا اليوم قد تقلصت إلى تفاهات عادية؟ هل هي مجرد سلع في سوق البيع؟ هل أصبحوا في موقع للسخرية والاستهزاء بهم من قبل جماهير روضت بحيث تعتبر أن الاستهتار والتهكم جزء أساسي وطبيعي من الحالة البشرية؟
هل ثمة طريقة أفضل للتحكم بالجماهير أكثر من نشر اللامبالاة والتفاهة وتشجيع تسطيح القضايا والأفكار أو مصائر شعوب معينة؟
وهل هناك من طريقة أفضل للتحكم بالمعارضة إلا من خلال السخرية من المعارضين أو، إذ لم يفلح ذلك ، كما في حالة الحكومة الهندية ، بتوجيه تهم التحريض ضد 7000 محتج شرعي ضد الأسلحة النووية في كودنكولام من الريفين البسطاء وصيادي السمك؟
هل ينبغي علينا فقط تجاهل هذا والاسترخاء، والقبول بثقافة تكرس وقتاً أطول للبث وأعمدة صحفية أكثر لقصة عن سيمون كويل وهو يضع أغشية على وجهه للحفاظ على شبابه، أكثر من موت واحد من أعظم المؤرخين في القرن العشرين (ريك هوبسباون)؟
هل ينبغي علينا أن نسترخي ونقوم بشراء (الشامبو) لأننا وضعنا في كذبة أننا نستحق ذلك؟
إن كان الأمر كذلك فإن الأمر لا يقتصر على المحتجين الشرعيين ال7000 فقط في كودنكولام وغيرهم ممن يواجهون تهديدات مشابهة عبر الهند وإنما كل واحد منا كذلك أيضاً.
إن السمة المميزة لمجتمع ذكي هو بقدرته على طرح التساؤلات. إن كنت على شك بالأمر فلدي الحق بأن أسأل.
(إن الفعل البسيط بطرح الأسئلة تم التعامل معه على أنه تحريض هنا)"أرونا روي سياسية هندية وناشطة اجتماعية".
تعود أصوله إلى شمال غرب انكلترا قد أمضى عدة سنوات في الهند، وكتب في قضايا العديد من الشعوب.