أيها المعرضون عن الكلام

غادر جمال الدين الأفغاني العراق قبل أن تصدر الأستانة أمرها بمنعه من السفر. وبعد مدة من إقامته في لندن جاءته دعوة من السلطان عبد الحميد كي يحضر إلى الأستانة ويعاون السلطان في العمل على نشر التضامن الإسلامي بين شعوب الشرق قاطبة. فسافر جمال الدين الأفغاني إلى الأستانة سنة 1892. وفي أحد الأيام استقبله السلطان وقال له: إن سفير إيران قصدني ثلاث مرات فحجبته في المرتين الأوليين ثم أذنت له فطلب مني أن آمرك بالكف عن نقد الشاهنشاه والتعرض له بسوء، فأنا الآن أطلب منك الإعراض عنه. فقال جمال الدين الأفغاني: امتثالاً لأمر خليفة العصر قد عفوت عن شاه إيران. فعلق السلطان عبد الحميد وهو يداري غيظه وخوفه: يحق أن يخاف منك ملك الملوك خوفاً عظيماً. وحضر ذات يوم مجلس السلطان عبد الحميد, فلاحظت الحاشية أن جمال الدين الأفغاني كان يلعب بحبات مسبحته فتحدث صوتاً، فلما خرج لفتوا انتباهه إلى أن أدب اللقاء يتنافى مع هذا التصرف. فسخر منهم وعلق قائلاً: سبحان الله إن جلالة السلطان يلعب بمقدرات الملايين من الرعية على هواه وليس من يعترض منهم. أفلا يكون لجمال الدين الحق أن يلعب في مسبحته كيف يشاء؟ وتناثرت من فمه كلمات النقد القاسية في حق السلطان عبد الحميد وحرض على خلعه وخلع ملك الملوك الإيراني وقال: إن خلعهما أهون من خلع النعلين.  

      في لحظة صدق نادرة قال مالك بن نبي: في هدأة الليل، وفي سبات الأمة الإسلامية العميق، انبعث من بلاد الأفغان صوت ينادي بفجر جديد، صوت ينادي: حي على الفلاح، فكان رجعه في كل مكان. إنه صوت جمال الدين الأفغاني (1838-1897) موقظ هذه الأمة إلى نهضة حضارية جديدة، ويوم فلاح جديد. فما الذي أراده جمال الدين الأفغاني في مشروعه الفكري السياسي؟ كان الحامل المهم في مشروعه هو الجرأة في الاقتحام عبر صوت صارخ في البرية تردد صداه في هذا الرجع البعيد الذي نشهد انبثاق فجره اليوم.وهنا أذهب إلى الشاعر السوري أنيس بدوي وأسأل: هل كان يردد كلمات الأفغاني حين قال في فاتحة ديوانه «أصوات»: أيها المعرضون عن الكلام، وفي صمتكم مشكاة النبوة، هذه أصواتكم؟                                                                             

كان خبر طرد جمال الدين من إيران قد وصل إلى العراق. وفي بغداد استقبلته السلطات العثمانية, ونفذت أوامر الأستانة بنقله من بغداد إلى البصرة لترحيله عبر البحر إلى مكان آخر. وفي البصرة التقى بأحد المنفيين الإيرانيين وحملَّه رسالته الشهيرة التي طبعها في لندن فيما بعد تحت عنوان: «حجة الله البالغة وحملة القرآن». وقد وصلت الرسالة إلى عالم الشيعة الحاج محمد حسن المجتهد الشيرازي. وقد فضحت الرسالة سياسة الشاه الضارة بمصالح المسلمين، فكان لها أبلغ الأثر في مقاومة سياسة الاستبداد والعنجهية التي فرضها الشاه على الشعب. وقد ثارت العامة وأحاطت بقصر ملك الملوك ناصر الدين وأرادت قتله. ولم تهدأ ثائرتهم إلا حين ألغى الشاه امتياز الشركة البريطانية التي كانت تحتكر صناعة التنباك وتتحكم في العباد. فبعد قراءة الرسالة أصدر المجتهد الشيرازي فتواه الشهيرة بتحريم تدخين النرجيلة. وفي صباح أحد الأيام طلب الشاه نرجيلة فأخبره الخدم بأن المجتهد قد حرم تدخين التنباك ولا وجود له في القصر. ثم كسدت صناعة الشركة البريطانية وألغي الامتياز ودفع الشاه التعويض.      

كانت أهداف الأفغاني وتطلعاته فوق ما يقبل به ملك مستبد، وقال مخاطباً جمال الدين: يا سيدنا، إنك قد أتيت أهلاً، ونزلت سهلاً،فقل الآن ما تريد، وما تطلب مني أن أفعله. فرد جمال الدين: أريد شيئين, أذناً صاغية تسمع ما أقول، وإرادة قوية تأمر بإجراء ما سمعته. ولما ذعر الشاه من الحكم الدستوري قال له جمال الدين: إن تاجك وعظمة سلطانك وقوائم عرشك سيكونون بالحكم الدستوري أعظم وأنفذ وأثبت مما هو الآن, فاسمح لإخلاصي أن أؤديه صريحاً شجاعاً قبل فوات الأوان. لكن الشاه تهيب من جرأة الأفغاني وشرع يضع أمامه العراقيل، فبدأ جمال الدين الأفغاني بنقد الشاه علناً، وقال في حضرته: إن الفلاح والفاعل والصانع والحرفي في المملكة يا حضرة الشاه أنفع من عظمتك ومن أمرائك، لاشك في ذلك، ولا بد أنك رأيت وقرأت عن أمة استطاعت العيش دون أن يكون على رأسها ملك، ولكن هل رأيت يا عظمة الشاه ملكاً بلا أمة ورعية؟ وفي آذار سنة 1891 اتفق رأي البلاط الإيراني على طرد جمال الدين الأفغاني من البلاد, وقد تم هذا الأمر بصورة فظة بلغت الحد في قسوتها ومهانتها, فقد اقتحمت قوة من خمسمائة جندي الدار التي ينزل بها جمال الدين, وألقوا عمامته أرضاً، واقتادوه في شتاء قارس بلغ ارتفاع الثلج فيه إلى الركبتين، وكان الرجل مريضاً يعاني سكرات نوبات الحمى التي تحدث عنا المتنبي في إحدى قصائده. وفي طريق نفيه إلى العراق كانوا يغيرون حراسه في كل منزلة من منازل الطريق حتى لا يتعاطف الحراس مع هذا الرجل العظيم الذي أركبه الطغاة حماراً، وكلما اشتد البرد طرقوا منزلاً بالطريق، ونادوا أهله: افتحوا الباب فنحن جنود مكلفون بسوق أحد المجرمين. وحين وصل بعد ذلك إلى الأستانة استرجع لمريده وأصدقائه هذه الصورة القاتمة قائلاً: أيها السادة لقد كنت أنا ذلك المجرم. وعجبت من نفسي القاسية أنها لم تمت بهذه الشدة ونجت من الهلاك.