منظرو تزييف الوعي
كثيرة هي المصطلحات المضللة التي يزدحم بها الفضاء الإعلامي العربي. الفضاء الصاخب الذي يشهد سيولةً زائدةً وانفلاتاً فائضاً عن الضرورة يتمثل في حشد من فضائياته متعددة المشارب والغايات والأجندات والتوظيفات، والمكتظ بوسائل الإعلام الأخرى المرئية والمسموعة والمقروءة، وجلُّها، بجهالة أو من دونها، باتت نهباً مشاعاً لترداد ببغائي لمثل هذه المصطلحات، وليس بقليلها من هو لا يسلم من توجيه مدروس ولايخلو ترداده لها من سوء نية وقصد مبيَّت.
مبدئياً، إنه لا اعتراض على إنفتاح فضاءاتنا لما يتلاطم فيها من أفكار ورؤى واجتهادات مختلفة ومتصارعة، الأمر الذي يعكس في جانبه راهناً يحفل بحراكات ترهص بتحولات جارية وتؤشر على مسارات لتغيرات عميقة لاراد لها، وهي بالضرورة لاتصب في نهاية المطاف إلا لمصلحة قيامة نهضوية طال إنتظار غيثها في بيداء عهود من قحط توالت على الأمة نكباته وأقامت مديداً في ديارها. لكنما المشكلة هي فيما يتعرض له الوعي العربي المستهدف والمستفرد به من تشويه وتزييف عبر كل هذا الضخ الهائل بغثه وسمينه وزبَده وزُبده، أو ما يحمله من مصطلحات يجري تعويمها وترويجها ومن ثم ترسيخها لدى قطاعات واسعة من بسطاء الأمة وحتى لدى كثير من نخبها الهشة … ونقول وعيها المستفرد به، لغياب مواجهة مفترضة جادة وفاعلة لهذا الداء المستوطن المستشري، إذ ليس لها وأن تأتي من قبل هكذا نخب توزعت خنادقها ومواقعها واصطفافاتها وراياتها، بل وأسهم منها من يسهم بجهالة أو لاستلاب أو لإرتزاق حد العمالة في مثل هذه الغزوة اللجبة.
الفضائيات العربية ببرامجها العديدة والمختلفة، الجادة منها والهابطة، وتلك الباحثة عن الإثارة، أو عن تعبئة لأوقات بثها، تزدحم بمن يتم إختيارهم وحشدهم مع الإنعام عليهم تبرعاً بألقاب مجانية، من مثل، مفكر وخبير ومختص وباحث ومحلل، مع إضافة إستراتيجي غالباً، حيث بات لكل فضائية من هؤلاء لفيف من إستراتيجييها ومنظريها، أو نجومها التي صنعت وروّجت، وبما يتلاءم مع ضرورات ترويجها لبضاعتها أوما يتطلبه سوقها.
الحديث هنا يتشعب ويطول، لذا نختصره فنقصره على المصطلحات تخصيصاً، موردين قليل الأمثلة لمجرد الإشارة بغيض إلى فيض لايتسع مجالنا للإفاضة فيه، وننتقي منها ما له علاقة بالمسألة الفلسطينية، ومن هذه: مصطلح «السلام العادل والشامل»، والمقصود به التوصُّل إلى حل ما مع الغزاة الصهاينة، أو الأدق إلى تصفية للقضية الفلسطينية، قد يستعاد به، بعض من نسبة العشرين في المائة التي إحتلت من فلسطين بعد العام 1967، ومسامحتهم في الثمانين في المائة الباقية، أو ما احتلوه منها عقب نكبة 1948. وكأنما هناك من سلام عادل حقاً من دون عودة كل فلسطين التاريخية وعودة كل أهلها لها، أو ما يعني بوضوح عودة الغزاة الغاصبين لها من حيث أتوا، بمعنى طردهم منها. ألأمر الذي هو من مسؤولية أمة ومن مهمة أجيال، وما لا يمكن تحقيقه عبر تفاوض عاجز مع باغ، أو من خلال إستجداء الحلول من عدو … ونستطرد قليلاً لنذكر «المسيرة السلمية»، التي تعني المصيبة الأوسلوية بكوارثها المشهودة على القضية، و«المجتمع الدولي»، و«الرأي العام الدولي»، أو ما لا يترجمان، في ظل المعادلات الدولية الراهنة التي مازالت في طور التحوُّل، إلا الرأي العام الغربي المعادي تاريخياً لأمتنا … ولا ننسى خبث ودلالات تبديل بعض المصطلحات بهدف التحلل من المسؤولية القومية تجاه فلسطين، مثل «النزاع» بدلاً من «الصراع»، و«الفلسطيني – الإسرائيلي» بديلاً عن «العربي- الصهيوني»…
وختاماً، وبعيداً عن المصطلحات، لا بأس من الإشارة السريعة إلى راهن إنشغال رهط من المحللين إياهم بما يعدونه إنزياحاً مستجداً لحزب «الليكود» ألصهيوني أكثر باتجاه التطرف، ذلك بعد إعلان التحالف الإنتخابي الأخير بينه و بين حزب «إسرائيل بيتنا» الفاشي، أو بين كل من زعيميهما، نتنياهو وليبرمان، الأمر الذي يرون أنه سينقل الأول بالضرورة الى موقع الأخير، وكأنما الليكود منذ أن كان ليس في هذا الموقع بامتياز، أو كانما يوجد في الكيان الصهيوني، إزاء ثوابت الإستراتيجية الصهيونية الإستعمارية المعروفة، من يختلف في كثير أو في قليل عن نتنياهو وليبرمان!
جبهة أعداء الأمة كبيرة ومتسعة وعديدة الأطراف، داخلياً أولاً وخارجياً ثانياً، والمشروع الغربي الإستعماري التاريخي المعادي لها يزداد شراسةً وعدوانيةً، تتبدل مساراته وأشكاله وأدواته وتظل أجنداته واستهدافاته واحدةً، بيد أن أكثرها فتكاً هو غزوه للوعي العربي، وأخطر طلائع هذا الغزو هم منظرو تزييف هذا الوعي من بني جلدتنا، سواء أكان هذا منهم جهالةً أو إستلاباً أو إرتزاقا.