خبر عاجل.. الحياةُ اليومية لأسرة سورية!
انظرْ حولك، الأماكن، تضيق جداً، المدن والقرى والبلدات.. الشوارع والحارات كلها، ربما باتت لا تتعدى مساحة غرفةٍ صغيرة في حيّ مهمش..!
توقفْ لحظةً، الزمن يتسارع ويُختصر، فأطول الأحداث تمرُّ في لحظةٍ ولم يعد يتاح لك التمعن فيها، تأتيك طامّة أخرى تزيحها.. ثُمّ تمر لحظات أخرى يتوقف الزمن فيها، فتنداح الأشياء والأفكار حولك دون أن تشعر.
وتسأل نفسك: أفقدت الإحساس؟ وهل ما تأتي به الزوابع ستذروه الرياح يوماً؟
لم يبق مكانٌ للذكريات والأحلام إلاّ القليل.. والحياة بات عيشها لحظةً بلحظة، وكل لحظةٍ بأمر، والأمر أصبح بيد أمراء الحرب، فراعنة هذا الزمن وهاماناته، وكم من متنبئٍ كذاب.. وخليفةٍ دعِيٍ باسم الإله..
الأسرة السورية فقدت ربّها.. إن لم تفقده جسداً فقدته روحاً.. وعشتار السورية ربةَ الخِصبِ صارت هي الضحية.. والشباب لم يبق له ماض يتزود به ولا مستقبلٍ يتطلع إليه، فهو يغرق كل يوم في تفاصيل الحاضر بين الموت والحياة، وحدها الطفولةُ تتمرد أحياناً على الواقع المستلب من الأسرة ومنها، ولا يهزها أو ينغصها الخبر العاجل على شاشات التلفاز!
أيتها الأم الكبرى.. وأنتِ تنفضين.. عن عينيّ الكرى.. لا أرى سِواكِ. الجدة، الأم الكبرى التي تجاوزت الثمانين حولاً وما سئمت الحياة، رغم أنّ الحياة تريد سأمها.. فقدت بعضاً من الأبناء والأحفاد.. حتى نباتاتها التي كانت ترويها كل صباح ومساء لم يعد لها وجود، هذه الجدةُ لم تعد شهرزاد الأسرة، فآلاف الليالي صارت ليلةً واحدة، ومختصرةً بسؤالٍ مباحٍ كل مساءٍ وصباح: متى ستنتهي هذه الليلة المأساة، لنعود لدارنا؟
ربةَ الخِصب عِشتار، التي في صدرها الكرز والرمان، أصبحت أمَةً منهكةً جسداً وروحاً وفقدت ألوهيتها، شغلها الشاغل ماذا ستعد من طعامٍ لهذه الليلة، ليس لكَثرةِ الخيارات أمامها بل لقلتها، مجدرة أم برغل وتدور في الفلك ذاته، ونسيت مسَحات الجمال التي كانت تضيء وجهها، وتلونت بألوان الألم والحزن، لكن جمال الروح بقي، بلحظات العطف والحنية التي تُسبِغها على من حولها، تكشف عن ألوهيتها الضائعة والمختفية خلف غبار الزوابع، لكن سيأتي يوم ستذرو الرياح فيه ما خلفته الزوابع، عشتار.. يا ربة الخِصبِ والحياة..أمكِ الكبرى حواء ظلمتها الحكاية بأنها أكلت التفاحة.. وأنت سبتكِ الحكاية.. وشياطين اليوم يوسوسون باسم الإله الرب بلحىً تسيل منها دماء الخطيئة، لكنك ستبقين إلهةً وحورية هذا الزمان..!
خمس سنواتٍ عِجافٍ ونيّفٍ من أيام السوريين.. حرب داحس والغبراء، حربُ بسوسٍ بلا ناقةٍ أو جمل، فالناقة والجمل سرقها وتقاسمها أمراء الحرب، وبقي هابيل وقابيل يقتلان بعضهما كليهما قاتل وقتيل، والدم يسفح على أرض كانت مهد الوجود.. وكم من زيرٍ وجساسٍ يشهران سيفيهما على رقاب المستضعفين ويمعنان في ولغ دمائهم.. وكم من شايلوكٍ يتاجر بأشلاء أجسادهم.. وأشلاء أرواحهم ويتاجر بمفاتيح جنةٍ وهمية!
يا من تسعى من زاوية إلى زاوية بحثاً عن قطرة ماء، وليس غيمة تُظلك في يوم لم يبق لك فيه ظلّ إلاّ كدّكَ وكدحُكَ، لتثبت أنك ربّ وابن ربّ لأسرةٍ مسّها الضّرُ من الجهات كلّها.. حبيبتك حواء التي كانت تُظِلّكَ مسّها الضرّ أيضاً.. بُتّ تبحثُ عن خِشاش الأرض لعل وعسى أن تعود لأسرتك بصيد ولو غير ثمين.. أنهكك السعي لكن ما زلت واقفاً في وجه الريح.. وتركت سيفك وحملت معولك لتنشر المحبةَ في كَبَد الأرض.. سورية!
من صفحات التلفاز.. ومن بين الأخبار العاجلة المدماة تهرب الأحلام.. وحدها الطفولة تمردت على ذلك.. تجري وتركض خلفها لتقبض عليها.. من بين الأنقاض، لم تعد تأبه بالطير الأبابيل ولا جِنّيّات البير.. وتنظر بفرحٍ إلى شقائق حمراء تنبت صباح مساء.. تبحث عن فراشات ربيعية ملونة حقاً لتقبض على حلمٍ قام.. حقاً من بين الأنقاض قام!