بين قوسين: لذة البطء
ما يحدث أننا نحمل ممحاة ضخمة لمسح ما تراكم على سبورة الحياة اليومية. الذاكرة تتخلى قسراً عمّا راكمته، تحت وطأة السرعة. حدث الصباح يلغيه حدث المساء. العناق الحار في الأمس، قد ينتهي بخنجر في الظهر غداً. هكذا فقدنا لذة التأمل أو ما يسميه ميلان كونديرا «متعة البطء» متسائلاً: «لم اختفت متعة البطء؟ آه أين هم متسكعو الزمن الغابر؟ أين أبطال الأغاني الشعبية الكسالى؟ هل اختفوا باختفاء الدروب الريفية والحقول والغابات والطبيعة؟».
وبقدر ما يبدو هذا السؤال حاضراً في دهاليز الذهن، وسط حمى العجلة والركض والسعي، إلا أن كونديرا يمنحه ألقاً فلسفياً وجمالياً، ليس كسؤال روائي، بل كحصيلة معرفة، ولطمة في وجه العصر الذاهب إلى حتفه، مدمراً في طريقه لذة التأمل، تأمل نوافذ الله: «من يتأمل نوافذ الله لا يسأم أبداً بل يكون سعيداً».
هكذا يطرح صاحب «خفة الكائن التي لا تحتمل» عالماً متضاداً، تتناوب فيه الذاكرة والنسيان، التأمل والسرعة، الماضي والمستقبل، الضجر والسعادة، خلال علاقات روائية متينة ومبتكرة، فيها ولع واضح باللعب والتهكم، في سرد متواز لكشف الهوة بين نمط اللذة في القرن الثامن عشر وبين اللذة المعاصرة التي تفتقد إلى التمهل، فالنشوة الآن هي نشوة اللحظة العجلى.
فالثورة الصناعية دمرت الحياة الروحية للبشر: السرعة هي حالة انجذاب قدمتها الثورة التقنية كهدية للإنسان، وخلافاً لراكب الدراجة النارية نجد ممارس رياضة الجري حاضراً دائماً في جسده، ومجبراً على التفكير باستمرار في مشكلاته الجسدية والتنفسية، وعندما يجري يشعر بثقل جسده وعمره ويكون متيقظاً لذاته ولزمن حياته».
ويشير كونديرا إلى التحالف الغريب بين الحيادية الباردة للتقنية والنار المدمرة للانجذاب.
هكذا يعود أخيراً إلى النقطة التي انطلق منها وهي «فضيلة البطء» مقحماً كل احتمالات هذه المفردة الغائبة، لذا تتداخل الاستعارات اللغوية والفلسفية والسيرة الذاتية إلى ولع بالنشوة الحياتية والروائية معتبراً أن ما يكتبه مجرد «دعابة حمقاء» لكن هذه الدعابة تكشف عن رصانة تحت السطح، حين يطيح بالزمن المتسارع، واللذة العابرة وأقنعة المشاهير، والأيديولوجيا الخاوية، فهو خلال ليلة واحدة يتجول قرنين من الزمن، حين يقارب زمنين أولحظتين في مشهد واحد، هو نهاية الرواية ذاتها: «أريد الاستمتاع بتناغم خطواته: كلما أوغل في سيره تباطأت خطواته أكثر، وأعتقد أنني ألمح في ذلك البطء علائم السعادة».
تعالوا نجرب لذة الهوينى، في تأمل ما يحيط بنا، فهي فضيلة مفتقدة اليوم!.