أن تبقى في الطريق
كيف يمكن أن تشرح لأحد لم ير يوماً زرقة البحر، ولم يعرف سوى اللون الأسود ما معنى "البحر أزرق"؟
هو سؤال يختزل إحدى مقولات رواية "الطريق" للكاتب الأمريكي كروماك مكارثي. فالابن ولد بعد كارثة ألمت بالأرض، لذا لم يعرف يوماً كيف كانت الحياة في السابق، والأب في المقابل يختزن في ذاكرته ومضاتٍ من صور الحياة وألوانها قبل الكارثة، ويحدث ابنه بها أحياناً. يسيران في الطريق دون توقف لأن في الوقوف موتهما، يسيران نحو أملٍ غامضٍ بالوصول إلى مكانٍ آمنٍ دافئ ملون..
إن كنتَ لم تقرأ رواية "الطريق "من قبل، أو لم تشاهد الفيلم المقتبس عنها، فلا حاجة لك بقراءتها الآن، لأن البلاد بأسرها تحولت إلى موقعٍ لتصوير أحداث الفيلم.
في سورية - كما في "الطريق"- غابت ملامح المدن وشوارعها وساحاتها، بعد أن امتد مشهد الدمار الرمادي ذاته على كامل البلاد. في الحكاية كان البطلان يستدلان على أسماء الولايات من لوحة معوجّة على قارعة الطريق. ونحن نستدل الآن على أسماء المدن من الشريط الإخباري أسفل الشاشة، أو من ذاكرتنا القريبة التي تخبرنا أن ساحة كانت هنا.. إذ لا فرق في صورة الركام أو لونه بين حمص أو حلب أو دير الزور.
في الرواية يحاصرك السؤال: من هو الأقل حظاً بين الاثنين؟ الأب الذي عرف الحياة في صورتها الحقيقية قبل أن يلحق بها الدمار؟ أم الأبن الذي لم يعرف تلك الصورة أبداً؟ تعذب الأبَ الذكريات والخوف لأنه يدرك حقاً حجم الفاجعة، أما الطفل فلا يعرف حتى ما الذي خسره، لأنه لم يختبر ترف المقارنة. في البلاد كما في الرواية سيصعب علينا فيما بعد أن نقدم صورة لما كانت عليه الحال في السابق: كيف يمكن أن تفسر لطفلك الفرق بين السوق القديم في حلب وأي سوقٍ آخر؟ أيكفي أن تقول أنه سوقٌ وإنما قديم؟! ستبتدع وصفاً على عجل تستعرض فيه تاريخ السوق وامتداده وأهميته التاريخية، وتصف له رائحة التوابل وألواح صابون الغار، وتترك له بعد ذلك مهمة إعادة بناء السوق في خياله..
إلا أن الكتاب في محاولته تصوير رحلة الصراع للبقاء على قيد الحياة، أغفل ذكر نوع الكارثة أو طبيعتها، فالسبب لم يكن ذا أهمية هناك، لذلك لم يشغل الكاتب نفسه بتبريره أو شرحه، الأب والابن أراحا ضميرهما من التفكير في السبب، أو الشعور بأنهما يتحملان جزءاً من المسؤولية، وانشغلا فقط برحلة الصمود. كما أن الشعور بالضيق الذي تولده الرواية، هو ضيق محبب، يدلل على براعة الكاتب في الوصف، وقدرته على نقل المشهد المظلم للقارئ.. هو ضيقٌ ينتهي بمجرد الانتهاء من القراءة، ليبقى في الذاكرة مجرد أثرٍ أسود. وهذا ما يجعله يختلف عن مشاعر الضيق والحصار والخوف التي نعيشها كل يوم حين ندرك بأنها ليست حبيسة كتاب قرأناه، ولا سبيل لجعلها تتوقف بأغلاق دفتيّ الكتاب، وأن طريقنا ما زال طويلاً حتى نصل إلى دفء الجنوب.