إعداد: إيمان الذياب إعداد: إيمان الذياب

الحلاج: شهيد التصوف الاجتماعي

يميز هادي العلوي في قراءته للتصوف في الإسلام بين نوعين: التصوف الاجتماعي والتصوف المعرفي، النوعين اللذين قد يتحدان أو يفترقان في أي فرد من الصوفية.

توجّه نضال التصوف الاجتماعي ضد السلطات الثلاث: الدولة والمال والدين، ففيما يخص الدين ألغى المتصوفة الوسائط بين الأرض والسماء ليتصلوا بالأخيرة رأساً، وكانت هذه فتنة الحلاج الأولى. وفقاً لذلك وجهت العبودية لله وحده، ووظفت في الفكر الاجتماعي الاسلامي لمناهضة عبودية الإنسان للإنسان حيث يكون المسلم النموذجي هومن يأبى أن يكون عبداً لغير الله وحده..

بينما ارتبطت مناهضة سلطتي الدولة والمال بالدفاع عن حقوق الخَلق التي تهضمها السلطات المشار إليها.

يتلاقى العداء لسلطة الدولة مع مناوأة سلطة المال، والدولة في الشرق، على مايرى هادي العلوي، هي المالك الفعلي للثروة الاجتماعية، ولا يكون الغني غنياً الإ بها ومنها. فالأغنياء داخلون في ملكوت السلطان، وقد جمع سري السقطي، وهو أحد المتصوّفة، بين الدولة والأغنياء في توجيه واحد يقول:» أياكم وقراء الأسواق وجيران الأغنياء وعلماء الامراء» ويطور السقطي هنا موقف المسيح من الأغنياء ليمتد إلى جيرانهم، وهي مايرمز بها إلى متعلقات الغنى، وما ينشأ حول هذا الأخير من مظاهر وأشياء وأشخاص. وربما يراد بجيران الأغنياء أنصار الثروة والتملك الخاص من أهل الفكر والسياسة من اقتصاديين ومثقفين.. إن هذا التوجيه بالغ الدلالة حيث يتجاوز فيه حدود الطبقة المالكة إلى منظريها ومؤدلجيها وما يتعلق بها من مواقف وأفكار وسياسات. وكان المتصوفة شديدي التدقيق في مصدر ما يأكلون ويلبسون، وكان إبراهيم بن أدهم يقول « أطب مطعمك ولا تبال أن تقوم الليل وتصوم النهار» ويقصد بذلك أن يكون طعامك من رزق نظيف ليس فيه مال سلطان ولا مال مغصوب من فقراء وما نحو ذلك. 

يؤكد هادي العلوي أن مذهب الحلاج هو نفسه مذهب الصوفية الاجتماعية، وأن قمع الفكر في العصر الاسلامي اختلط بالقمع السياسي، وقلما تعرض المارقون بنظر الحكام من الفلاسفة والصوفية وعموم أهل الفكر للقمع خارج الاعتبارات السياسية، ويؤكد كلامه في مقارنته مع الرازي، الذي يعد أهم الملحدين في عصره، وعاش في بغداد وكان مديراً لأكبر مستشفياتها بينما أُعدم الحلاج فيها بعد عقدين. وسبب نجاة الرازي يرجع الى عدم اشتغاله في السياسة، رغم تكلمه في الأديان والنبوات بلغة الفلسفة القاطعة وكان عنوان كتابه  «مخاريق الانبياء» كفيل بتعريضه لما تعرض له الحلاج، أو ربما أشد لو أنه أحيل للمحكمة..

لذا فلا يمكن اعتبار الحلاج شهيداً للفكر فقط، فهو شهيد موقف سياسي اجتماعي وضحية مغامرة طويلة الأمد أراد منها قلب دولة الظالمين لإنشاء دولة الخَلق التي يبسط بها العدل سلطانه، ومقتله ينتظم في سياق صلب المسيح، وهذا مصير نضال طبقي لا نضال فكري فحسب..

والحلاج هو حسين بن منصور، ولد في قرية الطور في الشمال الشرقي من مدينة البيضاء، وكان والده حلاج قطن تنقل معه في مختلف مراكز النسيج في الأهواز، ووصل إلى مدينة «واسط « حيث درس القراءة والقرآن والقواعد في مدرسة قرآنية معروفة، ثم انتقل إلى مدينة « تستر» وأضحى مريداً لدى شيخ متصوف معروف وصاحب طريقة هو السهل بن عبد الله، وبقي هناك سنتين شهد فيها أول ثورة لمحرومي الإسلام آنذاك عرفت في التاريخ بثورة الزنج، والتي ظل أثرها واضحاً في شخصه فيما بعد، ثم قصد البصرة التي كانت إحدى العواصم الفكرية للإسلام، وتأثر فيها بـ عمرو بن عثمان المكي الذي أهداه إلى الصوفية كطريق. ثم تغيرت حياته وأصبح متنسكاً، واتصل بالجنيد أحد أقطاب الصوفية في البصرة، وبدأ بالدعوة جهارأ لما يعتقد، وأثار ذلك حفيظة رفاقه الصوفية وشيخهم الجنيد واستدعى خصومتهم، وقد كان هؤلاء يتخوفون من اطلاع الناس على أسرارهم خشية وقوعها تحت طائلة فقهاء الشريعة من ناحية، وطائلة الدولة التي كانت تعاني من ثورة الزنج من ناحية أخرى. وقد أسست هذه الخصومة لمأساة الحلاج لاحقاً.

نشط الحلاج واعظاً من مدينة إلى أخرى ومن مسجد لآخر ثم كانت رحلته التبشيرية الثانية الأطول والأوسع والتي شملت تركستان والهند وحتى حدود الصين، واكتمل فيها نضجه وعلمه، حقيقةً ومذهباً وسلوكاً. وقد قطع مع ذاته عهداً ببذل حياته في سبيل ما يعتقد. وازدادت دائرة أعدائه مع ازدياد مريديه في الوقت ذاته، وكان قسم من أعدائه من بعض رفاقه القدامى من المتصوفة وبعضهم الآخر من أهل السلطة الذين تخوفوا من دعواته الصريحة وسعيه الدؤوب للإصلاح الديني والدنيوي من خلال رسائله وصلاته القرمطية.. وكان اعتقاله لأول مرة على يد القاضي محمد بن داوود الذي طالب بقتله، ولكنه لاقى معارضة من قاض آخر هو ابن السريج الذي أكد ان الالهام الصوفي لا يدخل في اختصاص المحاكم الشرعية ما انقذ الحلاج مؤقتاً. وتتصاعد الأحداث وتتلاحق، ففي عام 296 هـ كانت محاولة فاشلة في بغداد للداعين إلى الإصلاح واعتقل الحلاج، وسجن ثلاثة أعوام كتب خلالها زهوة مؤلفاته، ثم ستة أعوام أخرى قضى بعدها بالإعدام من خلال تقطيع أوصاله وهو حي..

الحلاج هو شهيد التصوّف الاجتماعي الأعظم. كان الفكر بالنسبة له ممارسة، كانت دعوته نضالاً خالداً، لم يقمعه القتل الشنيع ولم يطفئ بصيرته حتى في لحظات موته الأخيرة، عندما كان يشهد أوصاله تبتر أمامه، وقال خلالها: «إلهي أصبحت في دار الرغائب، انظر إلى العجائب، إلهي إنك تتودد إلى من يؤذيك، فكيف لا تتودد إلى من يؤذى فيك».