هذا شعب بقي على أرض الوطن «وما بدلوا تبديلا».. ولقد.. فيطيب لي بأن.. فإن هذه الواقعة وقعت... فهي إذاً واقعية .. وبالتالي..
قد تقرأ رواية ما وتعتقد أن الغرائبية فيها وصلت حد اللامعقول.. ولا تستطيع أن تصدق أحداثها مهما أقسم الكاتب من أيمان على واقعيتها. ومن أغرب ما يحدث الآن حقيقة أن المواطن السوري يعيش عدداً من هذه الروايات بآن معاً.. ولايهم تصديقها كثيراً لأنها سرعان ما ستستبدل بواقعة أخرى أكثر غرابة من الأولى. تختلف الأماكن وتتشابه الروايات وتتنافس في درجة غرابتها، ففي مدينة حلب، التي يعيش أهلها ظروفا صعبة جدا ليست ببعيدة عن الظرف السوري العام، ولكن تراجعت الحياة فيها إلى نمطها البدائي، نظراً لانقطاع التيار الكهربائي المتواصل لعدة أشهر وانعدام كل أشكال الحياة الطبيعية، يواجه المواطن هناك تحديات كبيرة وصلت إلى التفاصيل الصغيرة اليومية.
اختفت الأشجار من الشوارع، بعد أن اضطر الناس لقطعها واستخدامها للتدفئة أو لطبخ ما تبقى من مؤونة لديهم.. كذلك تحولت المدينة الجامعية إلى مدينة للأشباح، تصفر الريح الرمادية في أروقتها بعد أن قطعت كل أشجارها واختفت كل حدائقها..
ويحدث أيضاً في منطقتي الفرقان وسيف الدولة وبعض المناطق الأخرى أن يقف شخص ما في الطابورلساعات طويلة بقصد الحصول على الماء الساخن بثمن خمسين ليرة سورية للكأس!! والذي سيصبح فاتراً ريثما يصل المواطن إلى بيته، ولنا أن نتخيل فداحة هذه الحاجة لدى الناس وجشع هؤلاء الباعة الذين ابتكروا طرقاً عديدة للاستفادة من وضع كهذا..
طابور آخر.. تباع فيه أرغفة الخبز مفردة، بسعر خمس وعشرين ليرة للرغيف.. وقد لا يجد المواطن ما يشتري به ذاك الرغيف الثمين الذي ربما ساوى حياة كاملة في تلك اللحظات، حيث يقف البعض جانباً بانتظار من يتصدق عليهم برغيف لا يملكون ثمنه، ويضطرهم وجود طفل صغير لا يحتمل الجوع على سؤال من يملك ثمنه..
أما الطابور التالي فيوحي للواقفين بشيء من المدنية المشروخة، إذ يصطف المواطنون لشحن الهواتف النقالة عن طريق مولدة كهربائية بسعر خمسين إلى مئة ليرة سورية، وذلك حسب درجة جشع البائع. تأتي أمامنا صورة أخرى، يقوم البعض بتأجير المولدات الكهربائية التي تكفي لإنارة مصباح كهربائي واحد مع التلفزيون بسعر مئة ليرة للساعة!!
وبعد كل هذا يضع هؤلاء المواطنون في حسابهم طريق عودتهم للبيت حيث سيواجهون جيوشاً مسلحة من جميع الأشكال والاتجاهات، وعليهم هنا ان يتقنوا انتقاء الاجابات لكي لا يضيعوا بين الجيشين.. حتى يصل ذلك الرغيف لمن ينتظره.