العوم في الهواء
تخيّل أن تكون معلّقاً في الهواء، لا أرض تحتك تثبت أقدامك عليها، ولا حبال تتدلى من السماء كي تتسلقها نحو الأعلى.. أنت هناك في الفراغ: لا تستطيع التحكم بجسدك أو تقدير ثقله، لا مجال للشعور بالتعب أو الرغبة في التوقف عن الطوفان لأن في السكون سقوطك في حفرةٍ لاقاع لها..
يحتاج المرء أرضاً صلبة لأنه ببساطة يحتاج إلى نقطة انطلاقٍ، سواء قرر بعد ذلك المشي أو القفز في الهواء، الغوص عميقاً في الماء، أوحتى مجرد الاكتفاء بالوقوف..
يبني المرء أرضاً له من آلاف الأفكار والرؤى والأحلام، معايره للصح والخطأ، الأخلاقي وغير الأخلاقي، الوطني وغير الوطني، الجميل والقبيح وهكذا.. ومن هناك ينطلق، يمشي مراكماً تحته طبقات الأرض الصلبة، مستبدلاً بعضها بأخرى أكثر متانة، معدلاً ومضيفاً..
وغالباً ما تتلاقى مساحته الخاصةُ تلك مع أراضٍ لآخرين، بحيث تغدو امتداداً لها وتشكل بذاك كلاً موحداً ممتداً.. وربما تشكل وطناً.
لسنواتٍ طويلة كان للسوريين أرضٌ كذلك، مساحات شاسعة امتدت عميقاً في الأرض، تراكمت شيئاً فشيئاً، كانت أقدم من أن تسمح لأي أحد بأن يدعي أن له شرف بنائها أو تشييدها،
وكمثلها من الأراضي، اختلف المتصارعون على صكوك ملكيتها: اختار البعض مساحة منها كي يحصروها داخل سورٍ صغير، ظنّوا بأن لهم كامل الحق في طرد من يشاؤون بحجة أن الأرض أرضهم، ملعبهم الخاص أو حديقة منزلهم الخلفية. في المقابل وجد آخرون أن الحل يكمن في بناء أرضٍ جديدة ونسف القديمة كاملةً، تشييد جزر على صفحة الماء..
وهكذا وجد السوري نفسه؛ معلقاً في الهواء، هناك من يحاول حرمانه من أرضٍ كانت دائماً ملكه، وآخر يسعى جاهداً لصنع حفرةٍ من الأرض تحته، وجعلها تتسع وتتسع حتى تبتلعه. يشعر بالأرض تهتز لأن كل ما تربى على أنه الصواب، الأخلاقي، الوطني، صار اليوم موضع شك،
ولأن المرء لا يستطيع البقاء معلقاً هكذا، لجأ البعض لبناء أراضٍ مستعارة يستطيعون إراحة أجسادهم عليها؛ كانت لبعضهم ردةً دينية، وكانت لآخرين اغتراباً واقتناعاً بأن أرضهم الحقيقة بعيدة تماماً عن المكان التي عاشوا فيه، وكانت عند فئات أخرى القرار بتوديع الجاذبية والشعور بالخفة التي يسببها أي شكلٍ من أشكال الغياب أو الإدمان..
قد يشعر السوريون اليوم أن الأرض تختلُّ، أو أنهم ضِياعٌ فيها وهي التي كانت دوماً واضحة التضاريس.. قد يظنون حقاً أنهم معلقون في الفراغ.. ربما كان من الصواب أن تهتز الأرض لأن ذلك يعني أنها تتطور وتتغير.. كما لو أن ما يجري اليوم أشبه بحراثتها للوصول إلى التراب الرطب الخصب. بعض الحفر ستدمل وأخرى قد تبقى، وسيجد السوري أنه بدأ يتلمس طريقه من جديد، وأن الأرض تحته ما تزال صلبةً راسخة كما كانت دائماً.