جهاد أسعد محمد جهاد أسعد محمد

بين قوسين أرشيف للحساب.. والقصاص!

يلزم البلاد والناس والأوقات التالية أن يتم توثيق كل ثانية في هذه المرحلة بالصوت والصورة واللوحة واللغة الناصعة.

على الأقلام التي لم تحابِ، ولم ترتعش، ولم تنكسر، ولم تساوم... ولم تُروَّض في الصحف الرسمية وشبه الرسمية، ولم تتاجر بالكلمة في «مدونات» رجال ونساء الأعمال، أن تسجّل كل الصراخ المنبعث من حناجر المقهورين المنتفضين في الشوارع والساحات والمساجد، وكل الصراخ المخنوق في صدور الذين منعهم خوف مركّب من الالتحاق بالموجة الجامحة.. أن تدوّن كل العسف والقمع والترويع والكذب والذرائع الواهية.. أن ترصد كل التجييش الفئوي واللغة الطائفية ومحاولات دفع الحراك الشعبي إلى مآلات مظلمة.

على عدسات الشرفاء، العدسات الشجاعة التي لا علاقة لها بوكالات الأنباء السخية، ولا بالمحطات العاربة أو المستعربة، ولا بالمسوخ الإعلامية السورية أو المتسرينة، أن تبقى مفتوحة على وسعها لترصد المشهد السوري كاملاً: الهراوات التي تستمر بالتهاوي على الرؤوس والأجساد حتى تخرّب أشكالها الهندسية.. الرصاص «غير الخفيّ» المصوب إلى الصدور العارية والعيون الحالمة.. الدم المراق على الأرصفة، أو المختلط بالتراب أو بالإسفلت.. جنازات الشهداء.. الدموع.. الركض في الطرقات.. «الشبّيحة» الذين عادوا للظهور فجأة وهم يحملون الرشاشات والعصي الكهربائية على مداخل بعض الأحياء لـ«حمايتها» من عدو وهمي.. أصحاب اللحى الطويلة والشوارب الحليقة وهم يقفون جانباً متحفّزين.. الناطقين باسم المطرودين من البلاد لفسادهم وغيّهم وعمالتهم.. مسيرات التأييد الروتينية.. مسيرات السيارات الفارهة التي لا يعني الوطن لأصحابها إلا بمقدار ما ينهبونه منه ويستبدون فيه.. الناس في الشوارع والأسواق وهم يتملكهم شعور صامت بالقرف..

على الشعراء الذين لم يبيعوا أنفسهم للبلاط، أي بلاط، ولم يحلموا بما وراء البحار، ولم يلتهوا بالدسائس والترّهات وثرثرات المقاهي، أن يتخيلوا ألم الأطفال «المشاغبين» الذين اقتلعت أظافرهم، وقهر الرجال الذين أهينت كرامتهم، ونحيب الأمهات اللواتي يبحثن عن أبنائهن بين الجثث أو في المشافي أو في عيون رجال الأمن، ويتسولن الرحمة عند أبواب الأقبية.. عليهم أن يرصدوا الخوف تحت أزيز الرصاص وتحت القصف العشائري والمذهبي والديني.. فالشعر ما يزال ديوان شعب ما انفك محرمّاً عليه أن يجاهر بما يحس، وأن يصرخ إن تألّم، وأن ينتفض إن أهين.. وعليه – أي الشعر- أن يعود ضميراً، وأن يخرج من وهنه واغترابه وذاتياته المحطمة، وأن يثور على ترهاته وصراعاته الجانبية ويتطلع إلى حرية تحمله وتحمل الناس من أسر عصر الصمت والخوف والهزائم المتتالية إلى أفق لا يحدُّ..

على اللوحة التشكيلية، اللوحة التي لم ترهن نفسها لتمجيدٍ كاذبٍ، ولم يقف مبدعوها في الطابور على أبواب السفارات والغاليريات العابرة للقارات، أن تجسّد البعد الثالث الذي يعجز عنه الفوتوغراف.. البعد العميق للحراك الاجتماعي الحاصل تحت ضغط الاختناق بالكلمات والجوع والآفاق المغلقة، أن ترسم البلاد كما هي في العمق، الفقراء والشرفاء في جانب، واللصوص وأصحاب السطوة في جانب.. أن تبيّن أنّ النهب والقمع لا طائفة له ولا دين، وأن عامة الناس من كل خيوط النسيج الوطني ومن كل المناطق واللهجات مستهدفون في حياتهم ووحدتهم وكرامتهم، ومستهدفون في غضبتهم التي يراد لها من المتصارعين الكبار على الثروة ألا تكون جامعة وواضحة الأهداف وصحيحة الوجهة..

على «الموبايلات» والمدونات الإلكترونية والفنون والآداب والذاكرة الجمعية أن توثّق الآن كل تفاصيل الحدث المتصاعد.. كل التصريحات.. كل الفتاوى السرية والعلنية.. كل الدسائس والألاعيب والإشاعات الماكرة.. كل محاولات تمزيق البلاد والشعب بغض النظر عن نوع الشعارات وصفة رافعيها.. كل المسوغّات المزعومة للاستمرار في القتل والقمع والترهيب ومصادرة الحقوق.. فالتوثيق هنا هو الشاهد الملك على ما تُدفع البلاد نحوه بتسارع شديد ومريب.. وعمّا قليل سيأتي وقت الحساب والأسئلة والقصاص، سيأتي مهما حاول البعض المتحكم حتى الآن باللعبة الخطرة، أن يعيق ذلك..

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.