كان يا ما كان  حكايا النور والنار!
 زهير الملّا  زهير الملّا

كان يا ما كان حكايا النور والنار!

الصمت يخيم، والعيون الصغيرة اتسعت حدقاتها، والرقاب مشرئبة، والاندهاش يمسك بتلابيب الثياب،  والخيال يسبح في فضاءاتٍ بعيدة!

العفاريت تقرر مصير الأحياء، والسعلاة تلاحق الخائفين والجبناء، والشجعان يتصدون للظالمين، والحيوانات تتكلم وتنطق بالحكمة والنور! ضحكات الطفولة البريئة تزقزق كالطيور، والصرخات تتعالى في مقاهي الرجال: باطل يا شباب.. بينما الحكواتي يضع نظارته على أرنبة أنفه، وفي الريف نار الحكاية تبعث الدفء كما نار الموقد في الدار أو الخيمة!

تلك هي الحكاية الشعبية، الأسطورة، تنتقل من الجدّات والأجداد إلى الآباء والأحفاد، تنتقل شفاهاً وتستوطن ذاكرة الصغار النقية، قبل أن تُخطّ بحروف على الصفحات البيضاء، هي نتاج الجماعة الإنسانية، هي إبداع شعب خلال عقود ومئات السنين، إنها ذاكرته بآلامه وأحزانه وأفراحه!

لا حدود للزمان والمكان!

 

القصص الشعبي جزء من موروثات الشعوب، تصور أحداثاً تجمع بين الواقع والخيال، بعضها تحول عبر الزمن إلى أسطورة، هي أداة تعبير عن المشاعر والوجدان والحبّ والكُرهِ، والعلاقة بين الطبيعة بمكوناتها كلها والإنسان، وعلاقة الإنسان بالإنسان، بدأت منذ وجوده ووعيه لهذا الوجود بلغةٍ بسيطة وصورٍ فنيّةٍ من البيئة، يكاد لا يُعرف تاريخ ومكان ظهورها ومن مؤلفها، وهنا نجد هذا التشابه بينها في البلد الواحد والعديد من البلدان وخاصةً في الشرق، مهد الوجود والحضارة البشرية ومنها سورية.

أساطير سورية!

 

الأسطورة هي مغامرة العقل الأولى، كما يقول فراس سواح في كتابه، وكثير من الأساطير السورية بغض النظر عن واقعيتها وصدقيتها وما لحقها من إضافاتٍ وخيال، انتقلت إلى أصقاع العالم، كقصة الأميرة أوروبا والأمير قدموس قبل 1800 عام حيث انتقلت بصورة آلهة إلى اليونان والإغريق، أمّا الذين جاؤوا مع الاسكندر المقدوني إلى سورية فقد كانوا يكنون لها القداسة، وأطلقوا على مدينة الصالحية شرق سورية في دير الزور اسم أوروبا. وهناك أساطير أخرى كأسطورة الحورية أو لون الأرجوان، وأسطورة اكتشاف الزجاج وغيرها!

الحكاية الشعبية الشرقية

 

انتقلت العديد من الحكايات الشعبية عبر الأزمان والمجتمعات، وإن تغيرت أسماء أبطالها، كشخصية جحا الساخرة اجتماعياً، والتي تسمى عند الأكراد بهلول، وعند الأتراك والإيرانيين ملا نصر الدين، ومنها شخصية شهرزاد الأنثى التي قبلت تحدي الملك شهريار في ألف ليلة وليلة. أمّا قصة سيف بن ذي يزن والسيرة الهلالية وعنترة وغيرها، فهي تقترب من الواقع رغم ما لحقها من إضافات الرواة، وبعض القصص تتحدث عن الشطار والعيارين واللصوص والحرامية كقصص دليلة والزيبق، وعلي بابا والأربعين حرامي، وبعضها تحمل الحِكم والعبر وإن كانت على لسان الحيوانات ككليلة ودمنة، وبعضها عن الحب كملحمة «مموزين» الكردية و«جميل بثينة»، وعن الحقد والكره وجمال الشكل والنفس كقصة «سندريلا» وغيرها!

الحكايات الدينية

 

ربما هي أقدم القصص وهي أيضاً مشتركة بين شعوب الشرق لأنها تتحدث عن الخلق، كقصة آدم وحواء، وهابيل وقابيل، والطوفان، وأيوب ويونس، وبعضها ورد ذكره في الكتب المقدسة، وأغلبها تعبر عن وجود الإنسان وصراعه مع الطبيعة، ومحاولته تصوير هذا الوجود، والبحث عن الخلود المادي كما ملحمة جلجامش، وعندما لم يجده استنتج أنّ الإنسان يمكن أن يحصل على الخلود المعنوي، وذلك إذا قام بعملٍ عظيم أو ضحى بحياته من أجل الوطن، وإذا كان هذا قبل آلاف السنين فهل يتعلم منه المعاصرون؟

مغزى الحكاية ولغتها

 

لكل حكاية مغزى، فحكايا كثيرة من مثل: ليلى والذئب والثعلب المكار والراعي الكذاب تدخل في المجال التربوي، وبعضها الآخر يتخذ موقفاً متنوعاً من الظلم والظالمين، وإن كانت غير مباشرة، وتتراوح بين الوعظ والنصح والتحدي، كقصص كليلة ودمنة وشهرزاد وكاوا الحداد، والبعض منها يعبر عن الظروف البيئية ودورها كالتغريبة الهلالية، وأخرى عن البطولة والشجاعة كعنترة وسيف بن ذي يزن وسيامندو خجي الكردية، وبعضها تحثّ على العمل كالحطاب وصياد السمك، وبعضها تشطح في الخيال بعيداً كقصة «طائر السمرمر» وكأنه من نورٍ ونار رغم ألوانه المنسجمة مع الطبيعة. ومنها ما نقل شخصياتها من أناسٍ عاديين بسطاء ليكونوا أبطالاً.

أما لغة الحكاية فهي عادة ما تكون بسيطة تناسب الكبار والصغار، وغنية بالصور الفنية الساحرة لتحقق أهم عنصرٍ في الحكاية وهو التشويق والتفاعل، سواء جرى إلقاؤها في البيوت أو المقاهي الشعبية أو مضافات الوجهاء وشيوخ القبائل.. الخ، وتحتاج الحكاية إلى طريقة إلقاء، وحركات معبرة لتحقق التأثير المطلوب.

لا شك أن الموروث الشعبي والذي تناولنا قسماً منه سابقاً كالزي والموسيقى والغناء، وحالياً القصص الشعبي، يعبر عن وجدان الشعوب وذاكرتها الحية لحياتها، وهو جزء من التراكم والتلاقح الحضاري والعلاقات بينها في كل منطقة، ومنطقة الشرق عموماً، ويشكل رابطاً اجتماعياً مهماً يجب الاهتمام به رغم تراجع دوره أمام تطور أساليب العيش، ووسائل الاتصال والتواصل التي يمكن الاستفادة منها في المحافظة عليه ونشره. ولهذا الموروث دور تجميعي وتوحيدي بما يحمله من مشتركات في ثقافات الشعوب المتنوعة والغنية، ويمكن له أن يقف  بمواجهة تلك الاتجاهات التفتيتية سواء منها الثقافية أو السياسية.