وجبة بلاد أوروبية في الغسالة!
راما عرفات راما عرفات

وجبة بلاد أوروبية في الغسالة!

لم تجدنا بين الأشياء الجديدة، كنا دائماً نتكوم كما لو أننا مُنحنا مدى الحياة دور المجزرة، وكأن اختيارنا يؤنبنا. تلال ملونة هي أول ما يخطر في بال الفقير ليعانق القليل الذي يملكه، ليرد برد البلاد، هناك حيث تملأ فراغ حاجتك لأن يَذكرك أحد ما، أو تُنسَ من الجميع. هناك حيث تدفع مالك لتشتري ثياباً أوروبية سترتق ثقوبها لاحقاً بخيطان وطنية، هناك حيث تتذكر الأشياء جميعها التي استعرتها ولم تعدها، هناك حيث تشعر بحاجة دائمة لاقتراض ملابس الآخرين وأشيائهم أو حتى لاقتراض أوطانهم وبيوتهم، لتشعر، لتلمس ذلك الشيء الذي يدعى تغييراً بينما لا تقوى على ممارسته..

هذا ما تفعله تماماً ثيابهم التي تدعى بالية، ثيابهم العابرة للقارات وللبلاد وللسيارات الرثة، ثيابهم التي تم التخلي عنها ربما لأن بعضها فقد بريقه، أو ربما لأنها تذكّر أحدهم بأن الساعة الخامسة في يوم ما عبرته بألم بينما كان يرتديها، قِطع ثياب كانت لأشخاص قرروا أن الصباح لن يمر إن بقيت قابعة في خزائنهم، ثياب تحمل قصصاً مجهولة لأصحابها جاءت لتعيرك نفسها.

ذلك الشعور الذي ينتابك كلما دخلت محلات الثياب الأوروبية المستعملة، الشعور الذي ينقلب كلما تخطيت عتبة تلك العوالم، قد يمنحك شيئاً يشبه كرة أرضية تتحرك ما إن وضعت فيشها في الكهرباء، شيئاً يشبه ملامسة أصابعك لقارات العالم التي نسيت عددها، إلا أنك فجأة تنقضّ لتخنقها دفعة واحدة، ذلك الشعور الذي ينتابك حين تقع عينك على معطف جديد فتتساءل لم هو موجود هنا؟ تلفق له قصة لترويها فيما بعد لأصدقائك، فتتخيل أن فنجاناً من القهوة في حي أرستقراطي في النرويج اندلق عليه، فقررت صاحبته أن لا فائدة منه، لكنك وبفضل استسلامها وقليل من مستحضرات التنظيف الرخيصة ستصنع حظك الجميل بامتلاكه.

ستضحك كثيراً حين تغسل ثيابك المستعملة، ستضحك كثيراً لو تخيلت أن كلاً منها تمثل بلداً، ستضحك كثيراً لأنك ستضع كمشة بلاد أوروبية في الغسالة.

أنت لا تملك المال لتزور البلاد التي ترى صورها على شبكة الإنترنت، أو التي تسمع عنها في الحكايات، إلا أنه ما زال بإمكانك تلمس ذلك بسهولة عجيبة، تدخل محلات البالة وتختار شالاً لتستجوبه أو كنزة تدلك علامتها التجارية على الأرض التي جاءت منها.

البالة ليست أفكار الفقراء وحسب، إنما هي أيضاً أوطان كثيرة لمن لا يمتلكون أجنحة، أو ربما قد تكون اليوم الناقص في شهر شباط، ذلك اليوم الذي يغيب أربع سنوات ليعير نفسه لمجرة أخرى بينما أيامنا هنا تتناقص كل يوم. حسناً، في البالة لن تكون من ركاب الدرجة الثانية أو الثالثة، إلا أنك ستحظى حتماً بمقعد باهت اللون في الدرجة الأولى.