الفن الجداري.. معرفة وموقف!
«إن ما يميز الرسامين الجداريين المكسيكيين عن غيرهم هي قدرتهم على التفكير النظري، إذ كانوا نظراً لما حَبَتهم به الطبيعة من تأهيل وقدرات قد استوعبوا مشاكل زمانهم وأدركوا الطريق الواجب عليه سلوكه. كما وعرفوا حق المعرفة الوضع التاريخي الذي عايشوه وموقف فنهم من الواقع الراهن»
خوسيه أوروسكو
هكذا وصف خوسيه أوروسكو الفنان التشكيلي المكسيكي، الفن الجداري في المكسيك، وهو يعد من رواد الفن المكسيكي الحديث، زاول التصوير الزيتي والجداري والمائي والحفر، وأسهم مع دافيد ألفارو سيكيروس ودييغو ريفيرا في وضع أسس مدرسة فنية مكسيكية لها طابع تقدمي ارتبطت بالأفكار الاشتراكية، ولها مواقفها الواضحة من علاقة الفن بالمجتمع، إذ جعلت الفن في خدمة النضال السياسي للشعب المكسيكي، واستوحت الحضارة المكسيكية القديمة، ودعت إلى فن يخاطب الناس، ويطرح قضاياهم، وبدلت المفهومات الفنية التقليدية التي كانت سائدة، واستخدمت الفن الجداري بدلاً من اللوحة الزيتية لتحقيق ذلك، وقدمت التقنيات الفنية الملائمة للفن الجداري، وملأت الساحات والأماكن العامة باللوحات النضالية التي تتمتع بالروح المكسيكية الخالصة.
بعيداً عن التقليد!
عندما غزا المستعمرون الإسبان أراضي المكسيك عام 1519 أذهلهم جمال الطبيعة فيها ومنجزات أهلها في الزراعة ومدنها الكبيرة ومعابدها والأبنية والجسور التي شيدها بشر لم تكن لهم معرفة بالأدوات الحديدية ولا بعجلة صناعة الخزف ولم يشاهدوا من قبل الأسلحة النارية.. الخ. وقام الإسبان بتدمير مدن الهنود تدميراً وحشياً فهدموا وأحرقوا المعابد والقصور وحطموا التماثيل الحجرية والخزفية ونقلوا إلى أوربة الأدوات والأشياء المصنوعة من الذهب والأحجار الكريمة. قامت في المكسيك الثورات، كما في بقية أنحاء أمريكا اللاتينية وناضل شعبها ضد السيطرة الأجنبية التي لم تتمكن من القضاء على الإنجازات الرائعة للحضارة البشرية هناك، فإبداع الرسامين الهنود قد أوجد على مدى آلاف السنين الكثير من المدارس والأساليب الفنية. وعانت مراحل عديدة من النشوء والازدهار والانحطاط وخلفت نماذج رائعة من أعمال العمارة والتشكيل والسيراميك.. الخ، وبالاعتماد على هذه الحضارة بالذات قام فن الجداريات المكسيكي.
إن ما يميز فن الجداريات المكسيكي هو ارتباطه بالفن المكسيكي القديم، وموضوعاته الأساسية التي تعكس العلاقات الاجتماعية بين الناس وحال المجتمع وتاريخه وآفاق تطوره. ولعل أهم سماته كونه لا يمثل تقليداً للمدارس الأوربية ومنابعه وطنية خالصة. وكان رساموه متأثرين بالأفكار التقدمية التي اجتاحت العالم آنذاك.
«بوسادا».. الموهبة الشعبية
في عام 1921 قام دييغو ريفيرا برسم أول جدارية في المكسيك بعنوان «الكون» وأعقبتها عشرات ومئات المجموعات من اللوحات الجدارية التي تزين الأبنية في كثير من المدن المكسيكية.
ولد ريفيرا عام 1886 ودرس الفنون التشكيلية في أكاديمية سان كارلوس، سافر إلى فرنسا للدراسة وزار إسبانيا وبريطانيا وبلجيكا وهولندا والاتّحاد السوفياتي وقام بجولة في إيطاليا لدراسة فن الجداريات لفترة عصر النهضة، ثم قام بجولة في أنحاء المكسيك لدراسة الحياة الشعبية والفلكلور وفن الهنود، ونفذ أول لوحة جدارية بعنوان الكون عام 1921، احتكّ بفنّانين كبار أمثال بيكاسّو وسيزام، فتبنّى مدارسهم الفنّيّة ليستقلّ بعدها ويؤسّس فناً مكسيكياً خاصاً.
كان أحد الرسامين الشباب الذين أثر بهم فنان غرافيك شعبي لم تعترف به الأوساط الفنية الأكاديمية حينها، لكنه حظي بشهرة عريضة في الأوساط الشعبية من خلال رسومه الكاريكاتورية التي يبدو أبطالها بهيئة هياكل عظمية ترتدي ملابس الفلاحين والجنود..
وكان هذا الفنان الذي لم يتعلم الرسم في الجامعات واسمه بوسادا يعمل في مطبعة فيزين، ومنشوراتها من كتب الصلوات والتراتيل وحكايات الأطفال وغيرها. عاش ريفيرا في الحي نفسه وطفق يرتاد المطبعة، وكتب عنها ريفيرا في وقت لاحق متحدثاً عن بوسادا: «لقد كشف أمامي الجمال الأصيل للشعب المكسيكي وجمال نضاله وطموحاته كما أعطاني أسمى درس في الفن». أما أوروسكو فقد كان يرتاد مدرسة إلى جانب المطبعة، وكتب عنه: « كان بوسادا يعمل على مرأى من الناس، وغالباً ما كنت أقف طويلاً كالمسحور أمام النافذة وأراقب عمله.. وتلقيت منه أول الدروس»، وقد تأثر هذان الفنانان بشدة بأعمال هذه الموهبة الشعبية.
«مجتمع جديد.. فن جديد»
كان المثقفون المكسيكيون آنذاك يبحثون عن هويتهم الوطنية لإدراكهم أن ثقافة الغزاة الإسبان لا تعبر حقاً عن أماني وهموم عامة الشعب فتوجهوا إلى الفلكلور الشعبي وإلى الأثار القديمة لشعبهم وقد ذهلوا هم أنفسهم لنتائج أبحاثهم في هذا المضمار! واكتشفوا أهمية وروعة حضارة أجدادهم وبدأت حملة واسعة لإحياء التراث القديم واعتماده كأساس للبناء عليها وبلغت الحملة أوجها بين عامي 1910 /1917.
ولكن دراسة بعض الفنانين في أوربا تركت بصمتها على هذا الفن فقد أخذوا عن الفن الأوربي المتطور تللك العناصر التي يفتقدها الفن المكسيكي القديم، فالمعروف أن الرسوم الجدارية نشأت كتقليد لجداريات الكنائس الأوربية، وظهرت لأول مرة بعد مجيء الإسبان إلى البلاد ونشوء فن العمارة المكسيكي الذي مزج بين العمارة الإسبانية والعمارة المكسيكية القديمة، فمثلاً حظي ريفيرا بشهرة واسعة في البداية كفنان تكعيبي! إلا أنه نكص عن هذا الاتجاه بعد فترة، بعد أن التقى سيكيروس في باريس واتفق معه في الرأي حول مستقبل الفن المكسيكي وأكد ريفيرا: «إنني أرى أن المجتمع الجديد هو المجتمع الذي ستزول فيه البرجوازية وأذواقها.. إن مجتمع المستقبل هو مجتمع الجماهير.. والفن الجديد لن يكون متحفاً للصور والآثار بل تلك الأبنية التي يرتادها الناس يومياً.. ومن هنا خلصت إلى فكرة الرسم الجداري».
«فن العامل الضحية»
أما دافيد سيكيروس الذي يعد من أهم الفنانين التشكيليين الذين أنجبتهم المكسيك بشكل خاص وأمريكا اللاتينية بشكل عام، والذي أدرك منذ صغره أهمية الفن والدور الأساسي والفاعل الذي يمكن أن يلعبه في المراحل التاريخية، والاجتماعية كلها، لناحية الارتقاء بالإنسان وأحاسيسه، ومفاهيمه، وقدرته على التحاور والانتماء للحضارات الإنسانية، فيؤكد «أننا لا نريد حبس أعمالنا في المتاحف، حيث لا يمكن أن يشاهدها إلا من لديه الوقت لذلك، وهذا ليس حال الذين يعملون، وبما أن الشعب غير قادر على زيارة المتاحف والمعارض فيجب علينا عرض أعمالنا في الشوارع وفي الأماكن التي يتجمع فيها العمال. لنحوِّل أماكن تجمعاتهم إلى متاحف، ولنغط جدران المنازل والمباني العامة والقصور النقابية والأماكن كلها التي يتواجد فيها الناس بالرسوم الفنية».
وفي برشلونة، خلال جنازة سياسي مكسيكي اغتالته الشرطة الإسبانية، ألقى سيكيروس خطاباً كان من الشدة لدرجة أن السلطات الإسبانية أبعدته من أراضيها، وبعد عودة سيكيروس إلى بلاده طرح السؤال التالي: «كيف يمكن أن ننجز فناً نصبياً وبطولياً، فناً جماهيرياً؟ قلنا لأنفسنا: فن جماهيري، هذا يعني فن جداري»، وقد تلمس الفنان في جداريته الثانية الطريق التي ستستغرق حياته، إننا نقصد «فن العامل الضحية» والذي أنجزه بتقنية الفريسك القديمة، وقد أبرز في هذا العمل جزءاً يمثل مجموعة عمال يحيطون بتابوت رفيقهم القتيل، إنهم صامتون، لكنه ذلك الصمت المليء بالصراخ بالإدانة، والتصميم على الانتقام، وجاء هذا العمل تأكيداً للطاقة الإبداعية التي سبق لها أن وعدت بالكثير.