كزانتزاكيس من التصوف إلى التقرير
لم يقطع الفاصل الزماني الكبير والخلاف الفكري والثقافي والبعد الجغرافي، تواصل القارئ في منطقتنا العربية، مع الكاتب اليوناني نيكوس كزنتزاكيس (1883 – 1957) الذي يُعتبَر من أبرز الكتَّاب والشعراء والفلاسفة في القرن العشرين، فقد شكل كتابه «تصوف منقذو الآلهة» وبسبب العمق الكبير الذي تحمله سطوره، حقل ألغام عليك اجتيازه بحذر شديد إذا أردت البحث في نشأة فكرة الآلهة عند البشر، وطبيعة الإله وماهيته، وهو ما عكر صفو رجال الدين في تلك الفترة وجعلهم يخوضون حرباً ضروساً ضد الكتاب ومؤلفه.
ركز كزانتزاكيس في «تصوف منقذو الآلهة»، على نقاش معانٍ جديدة ومهمة للحياة والموت، ووحدة الجنس البشري، في عصر كان يفتقر إلى المبادئ الأخلاقية والروحية، ويعج بآلهة وأساطير غير فعالة، حيث أثبتت كتاباته أنه كان يعمل على أن يمنح الفكر الشيوعي بعداً روحياً، وسعى جاهداً لخلق لاهوت جديد، وأسس جديدة للعمل السياسي، واستبدال نظرية التطور بفكرة المذهب الحيوي الذي ينطلق في الحياة من خلال الاندفاع الحيوي، ومواجهة تطور العالم، ومكافحة الجمود. ولا يمكن إغفال التأثير الواضح لفلسفة نيتشه، والعثور على البصمة اللونية لكتاب «هكذا تكلم زرادشت» في كتاب كزانتزاكيس، فهو من ترجم هذا العمل الكبير لليونانية قبل إصداره لكتابه «تصوف منقذو الآلهة».
وقد حدد رؤيته لعمل الحواس على أنها مخلوقات ذهنية، وأن الشمس لا تشرق ولا تغرب إلا في جمجمته، والعقل في «تصوف» يصرخ ويقول: «أنا موجود فقط في أعماق العمل الجوفي للحواس الخمس»، وأن نسج الفرح والحزن والزمن والمادة والروح كدوامة في نهر، والانتقال بين الظواهر التي ينشئها العقل لا يحتاج لأكثر من جسر، يبعدك عن الفوضى.
إن التفريق بين المراحل العمرية في حياة الكتاب والفلاسفة والمفكرين، لا يكون تعسفياً عندما نبحث في نتاجهم بين مرحلة الشباب ومرحلة النضج، بعد الخضوع لتعديلات في رؤاهم ومفاهيمهم، وكتابه تصوف منقذو الآلهة يخضع لفترة التمرد والإقبال على الحياة، وهذا الطابع الذي ميز أعمال كزنتزاكيس اللاحقة، فتعلم حب الحياة من قاطع خشب في سواحل اليونان الجنوبية، وكتب روايته الشهيرة «زوربا» بتلك الروح العذبة، ومن وحي خياله المتقد، حيث خطت مخيلته مساحة واسعة من البعد الإنساني، وتحويل الكلمات إلى نشيد مفعم بالحياة، وبالاكتشاف والمغامرات، ورفض الرضوخ للأمر الواقع.
كزانتزاكيس في روايته «زوربا» كان مهيأً لالتهام تفاصيل الحياة واعتصارها قطرة قطرة، وتحويل الملموس إلى مقولة فلسفية، حيث تساق الحياة بلحمها ودمها.
وفي كتابه «تقرير إلى غريكو» الذي شكل خلاصة فكر وتجربة نيكوس كزنتزاكيس عبر سرده لسيرته على شكل تقرير موجه إلى جده (إل غريكو) الرسام اليوناني المشهور، وفي هذا الكتاب يأخذ كزنتزاكيس القارئ إلى نهايات الأشياء حيث يقول: «أيها القارىء، ستجد في هذه الصفحات الأثر الأحمر الذي خلفته قطرات من دمي، الأثر الذي يشير إلى رحلتي بين الناس والعواطف والأفكار. كل إنسان، يستحق أن يدعى بابن الإنسان، عليه أن يحمل صليبه و يصعد جلجلته. كثيرون، والحقيقة معظمهم، يصلون إلى الدرجة الأولى أو الثانية ثم ينهارون لاهثين في منتصف الرحلة ولا يصلون إلى ذروة الجلجلة، بمعنى آخر ذروة. واجبهم أن يصلبوا، وأن يبعثوا، وأن يخلصوا أرواحهم. تضعف قلوبهم لخوفهم من الصلب، و هم لا يدرون أن الصليب هو الطريق الوحيد للبعث، و لا طريق غيره».
عبر كلماته العميقة، ورمزيته المفرطة استطاع كزنتزاكيس في «تقرير إلى غريكو» أن يقدم خلاصة تجربته، ويطرح الأسئلة التقليدية التي دارت في خلد كثير من البشر، ويجيب عليها بطريقة غير تقليدية تحمل الكثير من الفرادة والتميز، كما استطاع أن يلخص الأثر الكبير الذي تركته مجموعة من الشخصيات في بناء رؤيته ومنهم «المسيح، بوذا، لينين، نيتشه، وأوليس وغيرهم...»، حيث شكلت كلمة الصعود هاجساً لنيكوس، وقد كان لكل واحد من هؤلاء نبوءة تساعده على الارتقاء والصعود.