الخط الفاصل في الأدب!

الخط الفاصل في الأدب!

ظِلّان متجاوران عليك أن تبحث عنهما في جبال «ساريم ساكتي» الخالدة، ثمة جدار يفصل بين الظلين، ابحث عنهما نهاراً، واستمتع بقرائتمها ليلاً، فهنا يمر الخط الفاصل بينهما، بين شخصين قد يبدوان مثل البقية، لكنهما في الحقيقة ليسا كالبقية، لأنهما يمثلان بحق طرفي الصراع في الأدب الكازاخي منذ القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين.

ترك شعب كازاخستان، كغيره من شعوب الشرق، تراثٌاً أدبياً شفهياً جميلاً وقوياً، جرى تداوله شفهياً حتى منتصف القرن التاسع عشر، وتطور هذا التراث مع ظهور الأدب الكازاخي الحديث بداية القرن العشرين.
إذا ما تصفح أحد ما صفحات كتب الأدب الكازاخي سيتلمس وجود اختلاف ومعارضة على طول الخط بين رأيين، فبعض الكتب تعتبر أن مختار عويظوف «1897-1961» هو أبو الأدب الكازاخي، بينما ذهبت كتب أخرى إلى اعتبار آباي قونانباييف «1845-1904» عميداً للأدب الكازاخي. وقد يقود ذلك ويثير تساؤلات عدة حول مصداقية ما تطرحه هذه الكتب؟
تبدو القضية معقدة نوعاً ما، فكلاهما يمثلان الأدب الكازاخي، ولكن كلاً منهما يمثل تياراً فلسفياً معارضاً للتيار الآخر، انعكاساً للصراع الجاري في المجتمع في فترة كانت تناقضات العالم تضج بالحركة وتبدأ بالظهور دفعة واحدة أمام الناس، فبين «آباي» و«عويظوف» يقف الخط الفاصل للصراع في المجتمع، وكل منهما اختار الجهة التي يقاتل من أجلها.


«عميد الأدب».. الإقطاعي!

تؤكد مصادر متعددة أن  آباي كان شاعراً ومعلماً كازاخياً، ورائداً في تطوير نوعٍ جديد من الأدب الوطني الكازاخي المكتوب. 
يحاول مؤيدو هذا الرأي تثبيته وتأكيد صحته من خلال ما تسرده وتقوله سيرة آباي الشخصية، فقد كان والده، قونانباي أوسكنباي، من أبرز ملاكي الأراضي في كازاخستان الشرقية، درس آباي في مدارس في سَمِبالاتِنْسك، وتحدث الروسية والعربية والفارسية وغيرها من اللغات الشرقية. وكان آباي شيخ قبيلة وإقطاعي وتزوج أربع نساء!
ترجم آباي قونانباييف إلى اللغة الكازاخية عدداً من الأعمال الشعرية لشعراء أوروبيين وروس. ويضيف الباحثون والنقاد أن آباي قونانباي استطاع تقديم موضوعات وأفكاراً جديدةً في أشعاره، وأن الكثير من قصائده عبارة عن مونولوجات غنائية، حيث تمتزج في شعره موضوعات عن الطبيعة والحب بالإضافة إلى تأملات فلسفية وأفكار تنويرية وإنسانية! ولكن مع ذلك لم ينشر سوى القليل من قصائد آباي في حياته. وقد نشرت أول مجموعة له في بطرسبورغ عام 1909 بعنوان: قصائد للشاعر الكازاخي آباي إبراهيم قونانباييف.
كان «عميد الأدب» هذا كما يعتبره البعض، يتطرق إلى مواضيع تهم عامة الناس وتجتذبهم، كونه اشتهر في نشر ذلك النوع من الأدب الساخر الذي يجري من خلاله التندر على شرائح أو فئات من شعب آخر، حيث تعرض في كتاباته إلى «سخرية» الكازاخيين من الأوزبك! وهذا كان تعبيراً عن دعم مصلحته ومصلحة أبناء الطبقة الإقطاعية التي انتمى إليها ومثّلها نهاية القرن التاسع وبداية العشرين، عشية ظهور الانتفاضات الفلاحية في روسيا القيصرية وكازاخستان، تلك الانتفاضات التي وقف فيها الفلاحون الأوزبك مع الفلاحين الكازاخ ضد الإقطاعيين من الطرفين، فكان من مصلحة تلك الطبقة التي يأتي منها آباي أن يكون لها لسان حال مثل آباي لتشتيت الناس.


ممثل «المعارضة» الأدبية!

يعتبر مختار عويظوف أبو الأدب الكازاخي السوفييتي وممثله، الحائز على جوائز عدة في العالم، وفي كثير من البلدان جلبت له ملحمته الضخمة «طريق آباي» شهرة عالمية، وكذلك فعلت قصصه مثل «صياد النسر» و«أغنية في السهوب».
كتب عن بسطاء الناس، عن الجار والفلاح وأبناء وبنات الريف، عن الحب والوجه الجديد لبلاده، كان يأخذ أفكار قصصه وإلهام قصائده من حياة وأفواه الناس في تلك الفترة التي بدأت فيها كازاخستان تغلي على جمر هادئ، داعياً إلى وحدة نضال الأوزبك والكازاخيين والقرغيزيين ومنادياً بأخوة هذه الشعوب.


خطان لا يتفقان!

في كل تراث وأدب، كما يحدث في الحياة، يختبئ اتجاهان لا يتفقان على طول الخط، يخوضان صراعاً فلسفياً ضد بعضها، حيث لا وجود لأدب صرف «صاف ونقي» يعبر عن اتجاه واحد في مجتمعات تملؤها التناقضات العالقة والتي لم تحل بعد، ففي الأدب الأوكراني مثلاً يبرز اسم الشاعر إيفان كوتلياريفسكي كناشر أول كتاب باللغة الأوكرانية عام 1798 وممثلاً لأدب النبلاء. وفي المقابل يبرز اسم الشاعر تاراس شيفتشينكو ممثلاً لأدب الاقنان والفلاحين حتى لقب بالأب الروحي للانتفاضة الفلاحية في أوكرانيا 1861.
وقد اختلفت كتب تاريخ الأدب في تصنيف هذين الأديبين، فبعضها ذهبت إلى التأكيد أن كوتلياريفسكي هو «أبو» الأدب الأوكراني ومنحته الأولوية في التاريخ، بينما اعتبرت كتب أخرى تاراس شيفتشينكو كذلك. في الحقيقة يقف الإثنان على رأس تيارين متصارعين داخل هذا الأدب، وقد عبّر الاثنان كلاهما عن مصلحة من يمثلانه في الصراع الجاري داخل المجتمع. كما يمكن ملاحظة مسألة أخرى خلال الاطلاع على الآداب وودراستها، وهي أن آداب الشعوب متقاربة في مواضيعها في كثير من الأحيان، وأنها قد تأثرت ببعضها وتبلورت مع بعضها خلال سنوات طويلة، فمثلاً هناك تشابه كبير بين ملحمة الحب الشرقية «فرهاد وشيرين» في الأدب الكردي، وبعض النصوص التي تحكي قصصاً مشابهة في الأدب الكازاخي، كما يظهر تشابه كبير سواء في الشكل أو في مضامين ومواضيع عدة بين الأدب العربي والآداب الأرمنية والأوكرانية.

آخر تعديل على الأحد, 21 شباط/فبراير 2016 01:17