أدب الرحلات النبيلة
يوثق محمد منصور في كتابه «أدب الرحلات النبيلة» (المجلة العربية - الرياض) رحلات عدد من الأدباء والفلاسفة على مستوى العالم تلك الرحلات التي بدأها من قاموا بها لدواعي إنسانية وأخلاقية، فوقفوا على أشكال الظلم والاضطهاد الاجتماعي.
أدب الرحلات هو ذلك الأدب الذي يصور الكاتب من خلاله ما صادفه من أحداث، في رحلته التي قام بها إلى بلدٍ من البلدان أو ربما مجموعة بلدان.
فقد يضطر بعض الرحالة للعمل من أجل أن ينفق على رحلته. و»على مر التاريخ، ظل أدب الرحلات الذي ازدهر خلال فترة الفتوحات الإسلامية وما تلاها من عصر الاستقرار والازدهار.. والذي أسهم فيه العرب القدماء بقسط وافر من الكتب والأسفار التي يحفظها التراث الإنساني اليوم»؛
ولعلَّ من أهم نماذجه رحلة التاجر سليمان السيرافي بحراً في المحيط الهندي في القرن الثالث الهجري، ورحلة سلام الترجمان إلى حصون جبال القوقاز عام 227هـ، بتكليف من الخليفة العباسي الواثق، للبحث عن سدِّ يأجوج ومأجوج. ثم تأتي رحلات المسعودي مؤلف كتاب (مروج الذهب)، والمقدسي صاحب (أحسن التقاسيم وعرفة الأقاليم)، والإدريسي الأندلسي في (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)، إضافة إلى عبد اللطيف البغدادي، والبيروني (ت 440هـ)، وابن بطوطة (725هـ)، الذي ظلّ يرحل لمدة 29 سنة من بلد إلى آخر.
يبدأ المؤلف برحلة الكاتب الروسي أنطون تشيخوف (1860- 1904)، إلى جزيرة سخالين لم تكن تلك الرحلة نشاطاً اجتماعياً لطبيب مغمور يريد أن يجد له مكانة عامة فجأة، قرر تشيخوف إذن، القيام برحلته إلى الشرق الأقصى في روسيا، لتفقد ظروف المنفيين في (سخالين) جزيرة الأشغال الشاقة. واستغرق طريق الذهاب فقط، واحداً وثمانين يوماً في ظروف مناخية وجغرافية بالغة السوء.. حيث الظروف المناخية القاسية، وقد قضى تشيخوف في سخالين، أكثر من ثلاثة أشهر.. أجرى بمفرده استفتاء دقيقاً لسكان الجزيرة، بمن فيهم السجناء والمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة.
وكانت تلك الرحلة تسجل أول تعبير عن الظهور البليغ للعزيمة الاجتماعية التي تجذرت وتأصلت في شخص الكاتب. ينقلنا المؤلف إلى رحلة أخرى قام بها هذه المرة الكاتب الإنجليزي غراهام غرين إلى أدغال أفريقيا التي اكتشفت فيها جانب من قسوة العالم. فقد جاءت رحلة هذا الروائي الإنجليزي المعروف (1904- 1991) صاحب روايات (القوة والمجد- الأميركي الهادئ- الرجل الثالث- الهزليون)؛ إلى القارة السمراء تجسيداً عملياً لِمَا أُطلق عليه النقاد(مراقبته المركزة لتفاصيل البؤس والشقاء البشري) (ص 27). ويخبرنا الكاتب عن رحلة الكاتب الأيرلندي الساخر جورج برنارد شو (1856 _ 1950) إلى الاتحاد السوفياتي في أربعينيات القرن العشرين، لا تقل سخرية وطرافة عما يمكن أن نراه في الأفلام التي تناولت الحقبة الشيوعية في الآونة الأخيرة.. إلا أن ميزة تلك الرحلة أنها سبقت الآخرين في رؤية الحقيقة بعقود وعقود من الزمن. وقد سبق لبرنارد شو أن قام بعدة رحلات إلى الشرق، وقد زار دمشق في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين...
يقول برنارد شو عن المرأة الشرقية:» أعتقد أن الشرق مخطئ في طريقة معاملته للمرأة. ويضيف ولكني رأيت في دراستي لسيرة النبي العربي أنه كان من أكبر أنصار المرأة الذين عرفهم التاريخ، وقد كان للمرأة أكبر الأثر في عظمته».
وكان للأدباء والكتاب العرب دور أيضاً في مناشدة الشعوب التي خضعت للاحتلال فها هو الروائي والكاتب المسرحي الجزائري كاتب ياسين(1929- 1989) يزور فيتنام في نهاية الستينيات من القرن العشرين، فقد كتب ياسين وعلى امتداد ثلاث سنوات، ما بين 1967 إلى 1970 فصول مسرحيته (الرجل ذو الحذاء المطاطي) التي يمكن أن تسمى أيضاً تحية إلى (هوشي منه) مؤسس الدولة الفيتنامية الشمالية(ص 49). وينتقل المؤلف إلى الحديث عن مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا التي ارتكبتها القوات الاسرائيلية خريف عام 1982، حيث زار الكاتب المسرحي الفرنسي جان جينيه (1910 - 1986) المخيم ليرى آثار المجزرة، يحلل جان جينيه ذلك البعد المترامي لصور المذبحة التي طالعته في رحلته نحو صبرا وشاتيلا، مؤسساً ذلك على المشاعر التي تتنامى في ظلال الرعب والموت والألم. ورغم امتلاء المخيم بالجثث، فإن صورة الجثة الأولى تستوقف جان جينيه في شهادته، كأنما هي دهشة الانطباع الأول.
يتوقف جان جينيه عند أول منزل دخله أيضاً.. فيرصد مشهد الموت المباغت في داخل البيت والملاذ.. بدأت أتخطى الموتى مثلما نجتاز الهاويات. كان في الغرفة فوق سرير واحد، أربع جثث لرجال مكومين بعضهم فوق بعض، وكأن كل واحد منهم كان حريصاً على أن يحمي من كان تحته.
يوثق كتاب أدب الرحلات لحالات إنسانية عالمية، وأشخاص سجلوا شهاداتهم في سجل الإنسانية الأبيض ودافعوا من خلالها عن بشر أولاً وأخيراً، ويحوي الكتاب نماذج ساطعة تستحق أن تقرأ، لأن أهدافها تبقى نبيلة وصادقة ومحفوفة بالمخاطر.