صبرا».. يا ابنة العم »
محمود المنيراوي محمود المنيراوي

صبرا».. يا ابنة العم »

هيا اذهبي من الزمان إلى داركِ وتَعطّري بالدمعِ وقتما شئتِ دونَ أن يراكِ الغرباء، والغرباء كُثرٌ وقريبون يا ابنةَ العم، وحينَ يأتي الغريب انفضِي عن جسدكِ وجعكِ وقومِي سريعاً لترتدي الحجاب، فشعركِ حرامٌ عليهم على سنةِ التاريخِ ودمه، سينصرفُ سريعاً حتماً لأنكِ لستِ المرأة التي قدّت قميصها من قُبل احتفاءً بمجيئهِ، سيعرفُ الغرباء أن من رحلوا مازالوا حاضرين يحرسونَ شعركِ وشفتيكِ ونهدكِ الباكِي على أخيهِ الذي بُتر في معركةٍ تحملُ اسمكِ معهم، وتصرفِي كيفما كُنتِ تتصرفينَ في حضور من صاروا صوراً على الجدران، أعدّي لكلِ صورة وجبتي الفطور والغذاء، وفي الليلِ الذي لا يُشبهُ ليلهم الأخير وأنتِ تُقدمينَ لهم عشاءهم حدّثيهم عنكِ وعن حجابكِ الذي لم يسقط وعن فستانكِ الذي لم يتمزق وعن شعركِ الذي لم يمسسهُ إنسٌ ولا جان.

أخبريهم أنكِ مازلتِ تخرجينَ للشارعِ بحثاً عنهم، وأنكِ ترفضين أن تَرَي جسداً مُغطى حتى أثناءَ النوم، لكي لا تقتلهم الذكرى بداخلكِ، وأن وردَ حديقةِ البيتِ التي كانَ يشربُ أبوكِ فيها الشاي مازالَ مليئاً بألوانهِ رُغمَ أن قلةِ الماء وكثرةِ حيلهِ في الرحيل، أخبريهم عن جنونكِ هم أكثرُ من سيفهمكِ حينَ تُخبرينهم أنكِ مازلتِ تُعدّينَ لكل منهم -فرداً فرداً- فنجان قهوتهِ الصباحي وتشربينَ الفناجين كلها بمرارتها عنهم، قولي لهم كل شيءٍ، سيسمعونكِ حتى النهاية وسيفرحون ويضحكون ويبكونَ دمعتين أما الدمعة الأولى فهي لأنهم اعتقدوا بأنهم صاروا أبناء للغياب، وأما الدمعة الأخيرة في جرابات أعينهم ستسقطُ منهم لأنكِ وحدكِ في حضورهم هذا لديكِ من تخلقينَ منهم ابناً عاقاً للغياب.

 

صبرا يا ابنة العم، أخبري أختكِ صاحبة الشعر الطويل شاتيلا أنها مازالت جميلة، وأن هُناكَ العديد العديد ممن كانوا يتقدمون لخطبتها مازالوا يتوافدون إلينا، أخبريها بأن لا تخف وأننا سنعيدُ قبعتها التي خلعها عن رأسها ريحُ الموت، وسنشتري لها الفستان الذي يحملُ ألوانَ العلمِ الأربعة، قولي لها ألا تقلق فبابا نويل سيزورها حتماً ويساعدها في رفعِ صرختها على ساريةَ الجبل.

 

صبرا يا ابنة العم، لن أوصيكِ بشاتيلا وأنتِ الأدرى بما رأت وهي الصغيرة صاحبة العيون الذابلة، لا تتركيها وحيدة ونامي بقربها ليلاً، لربما تحتاجُ ماءً وتخافُ أن تمشي في الليلِ وحدها، أوصليها صباحاً إلى مدرسةِ الفرحِ على الناصيةِ الأولى من القلب لأنها ما عادت تعرفُ الطريقَ وحدها بعدما تبعثر الزمانُ والمكان في رأسها، وأعطِها في يديها رغيفَ الخبزِ المُحشو بالزعتر، هي لا تشتري من مقصفِ مدرستها شيئاً، تخافُ أن يبيعها البقالُ كومةً من الوعودِ والأماني التي يُقتلُ فيها أهلها أكثر من مرة.

 

ولا تنسي أني قريبٌ أجيبُ دعوتكِ إذا ما رف جفنكِ أو اشتكى رأسكِ من صداعِ السلام وهديل الحمام الأبيض، سأهبكِ منديلي الطويل الآن كي تمسحي فيهِ بعضَ دمعكِ، ولتشمّي فيهِ أن هناكَ من يتذكركِ دائماً ويخافُ عليكِ أكثرُ منكِ إذا نظرتِ في المرأةِ إليكِ، أن هناكَ أحداً يخافُ عليكِ أن تحسدكِ عيناكِ.

 

هيا يا ابنة العمِ عودِي إلى ما كُنتِ فيهِ، ولا تدعي صندوق البريدِ خائباً من خوائهِ فقيراً من لسانكِ، هوُ الوحيدُ الذي يطبطبُ على قلبي إذا ما وخزني زجاجٌ لا يحترمُ أنني حافٍ ولا أملكُ ما أقايضُ بهِ حذاءً سوى جُثتي التي لا تعنيني أبداً إن مُت.

 

هيا اذهبي من الزمانِ إلى داركِ، وأنتِ في طريقكِ إلى هُناك، لا تنظري للخلف أبداً، لأنكِ لن تمنعي وجهكِ من الذبولِ والسقوط سقوطاً خريفياً، فالذكرى تحصدُ الفرحَ عن الملامِح، لكنني أعدكِ بأن يأتي اليوم الذي ننظرُ فيهِ للخلفِ طويلاً ونبتسم، لأننا كُنا دوماً ننظرُ للأمام من أجلِ من هم خلفنا.