«نشّفتو دمنا»
قصدت المركز صباحاً، للحصول على وثيقة تبرع بالدم. استكمالاً للأوراق الثبوتية، المطلوبة، كرمى عينيّ «عقد عمل» في وزارة الثقافة لمدة ثلاثة أشهر، أحرزته أخيراً، بعد ركض وبحث ووساطات، استمرّت عشرين حولا!
فور دخولنا حرم المركز، بعد التدقيق والتحقيق. وجّهونا إلى غرفة رئيس الأطباء. الذي سألته إعفاءً من التبرع. كوني قد تبرعت سابقاً، وأناهز الستينيات من شقائي حالياً، زائد انخفاض في الضغط أعاني منه مؤخراً، يتناسب عكساً مع ارتفاع الإرهاب والإجرام والشبح والذبح. الثمار الأشهَر في زقـّوم «الربيع العربي»..
لكن سيادة العقيد رئيس الأطباء. رفض إعفائي، مؤكداً على إلزامية التبرع بالدم، للكبير وللصغير.. للمرأة وللرجل ـ بما فيه ذوو وذوات الضغوط المرتفعة والمنخفضة ـ من أجل إسعاف الجرحى والمصابين الذين يصلون المشافي بالمئات..
هنا قاطعني زميلي قائلاً باندهاش: هكذا إذاً! قالها بلهجة ونظرة خاصتين، بدا لي معهما، تماماً، كما لو أنه يقول: أوليس درهم وقاية خيرٌ من قنطار إسعاف؟!
بعد معرفة زمر دم المنتظرين، المطلوب إليهم وإليهن تبرّع بالدم. فرزونا، الإناث إلى مكان، والذكور إلى مكان آخر. ثم دخلنا بعدها، ثلاثة وأنا، إلى غرفة فيها أربعة أسرّة مع أدواتها، وطاولة قرب المدخل، ترتاح إليها، إحدى الممرضات.
بعد قرابة خمس دقائق، من تثبيت الإبرة في ذراعي، شعرت بدوخة وتعرّق، ناديت على أثرهما الممرضة، كي تتكرّم «بمحرمة كلينكس» وتأتي لتنظر في حالي.
مضى وقت، لم أحسبه كم، غير أني أحسسته ممضّاً وطويلاً، شغلته «ملاك الرحمة» بمكالمة مع أحدهم، راحت خلالها تتثنى وتتقلص وتتمدد ـ حسب حرارة الكلمات التي تأتيها من الطرف الآخر ـ قبل أن تصل إلى سريري، لتقول لي من خلف علكتها وقفا اكتراثها: «والله ما في عندنا محارم كلينكس..» ثم تنحني قليلاً إلى الأسفل لتعلّق: «بلاقي الكيس بعدو فاضي.. غريب.. شو ما فيك دم»!، فأجيبها متحاملاً على نفسي ومتناولاً كنزتي، لأمسح بها عرق جبيني وغربتي وعروبتي: ليس غريباً، بعد الذي كان وشاهدنا بعضه. من بشر يذبحون كالشياه، في البيوت والأماكن.. ودم يسفح كالمياه على الطرقات والأرصفة.. ليس غريباً بعد كل ذلك، أن لا يبقى فينا دم. بل الغريب بمعيّتكم ورعايتكم، أنتِ وأمثالك، أن يبقى فينا «شرش» ينبض ودم يجري!