المِظَلَّة

المِظَلَّة

فجأةً، ومن دون أيّ استئذان، دسّ رجلٌ نفسه تحت مظلّتي وتأبّط ذراعي وهو يحيّيني بمرح تحية الصباح. خلتُ للوهلة الأولى أنه أحد الأصدقاء أراد أن يحتمي من صراخ المطر الذي ينسكب من السماء بغزارة لم تشهدها المدينة منذ مدة. التفتُّ إليه بدهشة وريبة مستطلعاً، لم أعرفه! لم يسبق لي أن رأيته! وبحركة عفويّة منحته نصف مساحة الدائرة التي تشكّلها المظلّة. 

التصاقه الحميمي بي جعلني أتساءل: لا شك أنه يعرفني جيداً وإلاّ لما تجرّأ وموّن نفسه عليّ بهذه الطريقة. شرعتُ ألوم نفسي، كيف أنسى أسماء الناس ولا أذكر حتى وجوههم؟ رمقته مجدداً وأنا أقدح ذاكرتي، أين قابلته؟ ومن يشبه هذا الرجل؟ أنا متأكد أنّي رأيته سابقاً ولكن أين ؟ لم تسعفني ذاكرتي بالتعرّف عليه أبداً.

كان المطر يتكسّر بقوة على الإسفلت، عاجلني بالقول والبسمة لا تفارق وجهه: «ياه.. ما أجمل المطر، إنه ملح الحياة! الله يبعث الخير». 

وافقته مجاملاً وأنا أستفتي مخيّلتي باحثاً في ثناياها عسى أجد جواباً لسؤالي: ترى، من يكون هذا الرجل؟!

قال لي بدفء: «لا شك أنك ذاهبٌ إلى الوظيفة؟» أجبته موافقاً دون تردد والحرج يكاد يذوّبني..

يبدو أنه يعرف الكثير عني. أين الغضاضة فيما لو سألته عن اسمه مبدياً أسفي لنسيانه؟ 

لا، من المعيب أن أستعجل بسؤالٍ ساذجٍ كهذا. بالتأكيد سيقفز اسمه بغتةً إلى لساني وأهتدي إليه.. لِمَ العجلة؟ أمامي أكثر من خمس دقائق لأصل إلى مقرّ عملي وهذه المسافة كافية حتماً لاستذكاره. واسيتُ نفسي.

قال لي وهو ما زال ملتصقاً بي بمودّة صادقة: «إنشاء الله تغسل هذه الأمطار ما علق من غبار على الأشجار والأرصفة بعد كلّ هذا الاحتباس اللعين!» ثم ضحك قبل أن يواصل: «آمل أن تنظّف بلدنا من «الدواعش» بمختلف أشكالهم فهم سبب هذه المأساة المروّعة التي سوّدت حياتنا..». 

ها هو يلمّح للانخراط بحديث سياسي. إذن هو يعرف ميولي المعارضة للنظام ويستدرجني إلى الغوص بتفاصيل الأحداث السياسية المستجدّة. أضاف: «أعتقد أن «الروس» يعجبهم هذا المناخ فهم معتادون عليه.» 

لا يعقل أن أبقى هكذا مجرّد مصغٍ كالأبله! يجب أن أعرفه. استدرتُ بكامل وجهي أتفرّس ملاحمه بعينين واسعتين! إنه كبقية بني البشر لا يختلف عن سواه بشيء. رجلٌ أربعينيٌّ عاديٌّ بملامحه ولباسه ولهجته. وجهه متعب موشّح بالحزن كأغلب أبناء بلدي. وبالتالي من المستحيل أن أتعرّف عليه.. لا ريب من أن النظام الاستبدادي هو السبب في أنه حرمني من قوة الذاكرة بسبب ظروف الاعتقال والفقر والحرمان.. لو كان بمقدوري تناول ثمار الجوز واللوز والموز والسمك وباقي المأكولات الغنية بالفوسفور المقوّي للذاكرة لما كنت محرجاً وحائراً كما الآن. ولكنت عرفت فوراً هذا الرجل المجهول الذي اقتحم عليّ وحدتي ورافقني عنوةً. 

فجأةً بدأ يدندن بأغنية لفيروز (شتّي يا دنيا تيزيد.) وسرعان ما ختم مطلعها بضحكة مجلجلة واصفاً صوته بأنه كهزيم الرعد. متمنياً لفيروز العمر المديد. وبعد صمتٍ قصير أضاف: «برأيك أغنية (رجعت الشتوية) أجمل؟» أجبته باقتضاب: فيروز ثروة وطنية هامة.

وحيث أنه يقول الأشياء مثلما يشعر بها دون أيّ تكلّف، تابعَ متسائلاً: «متى سننتهي من هذه الأزمة؟ لقد تعبنا يا أستاذ، وأوشك صبرنا على النفاد..»

أجبته وأنا منتشي من صداح المطر. مراقباً حركة الشارع باستمتاع قلّ نظيره: آجلاً أم عاجلاً ستنتهي الأزمة وتعود سورية أفضل مما كانت عليه..

برق في نبرته نور جميل وهو يقول متضرّعاً بحماس: «من تمّك لباب السما.. الله يسمع منك يا ربّ!»  

تساءلتُ في أعماقي: هل يعقل أن يكون أحد رجال الأمن؟ لا، لا أظنّ، طيبته تنفي عنه هذه التهمة. ولكن من يدري؟ ربما يحاول التقرّب مني بوسائل إنسانية. فلديهم آلاف الطرق لبلوغ أهدافهم.

قال لي وهو يشير لي بحرص أبٍ يعلّم طفله الخطوات الأولى في المشي: «حذارِ من البركة التي أمامنا..» ثم ضحك قبل أن يواصل وهو يضمّني بألفة: «انظر ما أجمل الناس وهم يسيرون باتجاه أعمالهم تحت المطر، هل هناك في الدنيا أجمل من هذا المشهد؟»

يا إلهي! رجل بهذه الرومانسية لا يمكن أن يكون تابعاً لأية جهة أمنية. أكاد أجزم في ذلك.

لدى وصولي إلى المفرق المؤدّي إلى وظيفتي وقد خفّت الأمطار وأصبحت تتساقط بهدوء في إيقاعٍ بطيء جميل، وقفتُ مودّعاً: سوف أتجه جنوباً، لا أدري إلى أين أنت متجه؟ إذا كان مشوارك طويلاً يمكنني مرافقتك، فلديّ المزيد من الوقت.. 

قاطعني شاكراً ساحباً ذراعه مني بأن مراده بات قريباً وهمّ بالانصراف. استوقفته قائلاً: عذراً يا أخي، اسمح لي بهذا السؤال وأنا حقيقةً خجلٌ منه، صدّقني لم أعرفك ولم أتذكّرك مطلقاً! وتابعتُ مبتسماً: (يبدو أن الكِبَر عِبَر..).

ضغط على راحة كفّي بيده وقد أشرق وجهه وأجاب ببراءة: «وأنا لا أعرفك، ولكن ألسنا أبناء بلد واحد؟ كلانا سوريان وهذا يكفي.»

وانصرف مودّعاً دون أن أتمكّن حتى من معرفة اسمه!.

شعرتُ ببرودة الطقس، برعشة غريبة تسري في كامل جسدي، وبحاجة لا تقاوم إلى الركض خلفه ومعانقته لأتزوّد بدفئه. وقفتُ أتأمّله وهو يتقافز بين السيارات مشيراً لهم بالتمهّل لكي يعبر والابتسامة لا تفارق محيّاه. عندما وصل إلى الرصيف المقابل وقبل أن ينغمس بين الناس الذين يحتمون بشرفات الأبنية من المطر، التفت صوبي ملوّحاً بيده وقد ظلّت ابتسامته هي نفسها التي رأيتها منه منذ شروعه باحتضاني.

وكأنه يقول لي: «أربعٌ للناس جميعاً، الماء والكلأ والنار.. والمظلّة في حالات هطول المطر».