«الوطن.. ليس مسلسلاً»!
تعيش الدراما التلفزيونية الأمريكية هذه الأيام أيام مجدها، هجر الكثيرون من كبار ممثلي هوليوود أفلامهم المعتادة واختار كل منهم نوعاً خاصاً من المسلسلات لتزدحم الشاشات بقصص عديدة تظهر على الشاشة الفضية كل ليلة ليتابعها الملايين من الأمريكيين والعديد من المشاهدين حول العالم أيضاً، لكن أحد هذه المسلسلات فقط حظي بالكثير من الضجيج الإعلامي في الفترة الأخيرة، ربما لا تحمل «الحبكة الدرامية» الخاصة به نوعاً خاصاً من الجاذبية، كما لا يحتوي طاقمه على أي من ممثلي الصف الأول، يتحدث الجميع عنه اليوم لأنه ارتكب هفوة بسيطة، أشعلت ناراً من الانتقادات..!
تعرض القنوات الأمريكية هذه الأيام الموسم الخامس من المسلسل الشهير «Homeland” أو «الوطن»، وهو المسلسل الأمريكي التقليدي الذي اعتدنا جميعاً على مشاهدته، وانتقاده أيضاً، مؤامرات في الشرق الأوسط، ونزاعات سياسية دموية بين الغاضبين على الدوام ممن لا تستطيع تجاهل سحنتهم العربية السمراء. وبالطبع، يتنظر الجميع التدخل الأمريكي ممثلاً بوكالة الاستخبارات المركزية التي ستقضي على الإرهابيين، وتعيد السلام إلى ربوع العالم..!
لقد مللنا جميعاً من مشاهدة كل هذا وربما كون البعض منا مناعة ضد تلك الإهانات المعتادة، لكن امراً مثيراً للاهتمام ظهر على خلفية أحداث إحدى حلقات الموسم الأخير، على الخلفية تماماً، فقد كتب على أحد الجدران بكلمات عربية واضحة رسمت بالدهان الأحمر «الوطن.. عنصري»!
«تحت أنوف الجميع..»
ليست تلك المرة الأولى التي تستخدم فيها تلك المسلسلات كلمات عربية هنا أوهناك، فقد حاولت على الدوام إضفاء نوع من المصداقية أمام المتفرج الأمريكي عن طريق رسم أحرف عربية على الجدران او استخدام شاخصات مرورية أو عناوين لمحلات كُتبت بكلمات عربية، مع أن تلك الكلمات لم تكن عادة تحمل أي معنى، ويمكن لأي مشاهد عربي معرفة أنها مجرد صف غير مفهوم من الحروف غير المتصلة، أما المشاهد الأمريكي فلا يستطيع تمييز الفرق. لكن القائمين على مسلسل «الوطن» آثروا هذه المرة الاعتماد على مصمم فني متخصص «رسوم الشوارع» أو ما يعرف بـ«جرافيتي» لكتابة كلمات عربية صحيحة بالكامل، وجمل ذات معنى. ورغم ذلك يبدوا أنهم لم يكلفوا نفسهم عناء التأكد من صحة الكلمات التي رسمها ذلك المصمم، ربما قال لهم بأنها تعني شيئاً آخر، وصدقوا كلامه هذا دون نقاش، لكن الرسالة وصلت في النهاية، رسالة أراد ذلك المصمم إيصالها ووصلت بنجاح من تحت أنوف الجميع.
«الوطن» بطيخ..
كان الخبر حديث الصحف الأمريكية في اليوم التالي، وبدأت المزيد من الرسائل المضمنة بالظهور واحدة تلو الأخرى، فظهرت جملة «الوطن نكتة.. وما ضحكنا» على إحدى الجدران المهدمة، وأخرى تقول: «الوطن.. بطيخ»، و«الوطن ليس مسلسل». كما ظهرت جملة «بلاك لايفز ماتر» أو «حياة السود مهمة أيضاً» وهو الشعار الذي رفعه بعض الأمريكيون أنفسهم أثناء الاحتجاجات ضد عنف الشرطة الأمريكية في مواجهة الجالية «الملونة» هناك، ليتحول المسلسل الذي يتناول الجالية العربية بكل عنصرية إلى معرض للشعارات الاحتجاجية خلال عدة دقائق، ولتعلن مجموعة من الرسامين بعد عدة أيام مسؤوليتها عن هذا العمل موضحة موقفها ببيان مختصر أشارت فيه إلى: «العرض غير الدقيق لأحوال وأطباع العرب والباكستانيين وتمثيل خاطئ تماماً للعالم الإسلامي على وجه العموم».
«حرية.. إبداعية»!
تحدث كل من المصري الالماني «كرم كاب» والمصرية «هبة أمين» عن تفاصيل عمليتهم السرية تلك، منذ استدعائهم من قبل فريق عمل مسلسل «الوطن» الذي كان يبحث عن «فناني رسوم شوارع عرب» لكتابة بعض الكلمات على جدرن الأبنية المهدمة في إحدى المشاهد التي من المفترض أن تصور مخيماً للاجئين السوريين في لبنان، وتابعوا يصفون هوس طاقم الديكور بكافة التفاصيل الخاصة بسلال الغسيل البلاستكية وشمس المساء المتوسطية والغبار والتربة التي تلوث وجوه الأطفال لدرجة أنهم تركوا «هبة» و«كرم» دون أي متابعة، كما تحدثت «هبة» على موقعها الرسمي، عن قيام أحد المعدين باقتراح تضمين صور لبعض الشخصيات القيادية السورية التي كان لها أثرها خلال السنوات الأخيرة، لكنها تخلصت من ذلك الاقتراح متذرعة بحقوق الملكية التي قد تطال تلك الصور مما يحد من إمكانية نشرها بشكل مؤثر، ليحصل كل من «هبة» و«كرم» على «الحرية الإبداعية» المطلقة لكتابة ما يريدون على تلك الجدران، وهذا ما حدث.
«دهان أحمر رخيص»
لم ينتظر الإعلام الأمريكي تلك الحادثة للحديث عن عنصرية هذا المسلسل بالذات، فقد نال نصيبه من الانتقادات منذ مواسمه الأولى، لكن لم تصل أبداً إلى هذه الدرجة من الاحتجاج الذكي والصادم، مما ألقى الضوء على مدى جهل الكثير من الأمريكيين بالثقافات الأخرى، وخاصة تلك التي لا تخرج أبداً من دائرة التشويه، ووضع العمل ككل في دائرة السخرية اللاذعة خاصة وأن المسلسل يتحدث عن مهارة وكالة الاستخبارات الأمريكية في حل الألغاز والتخلص من المشاكل في العالم أجمع، والتي وقعت في فخ اثنين من رسامي الشوارع لتتهاوى المصداقية التي حاولت جاهدة إيصالها للمشاهدين عن طريق دهان أحمر رخيص نجح في ترك رسالة قد تمحى بسهولة من على الجدران لكنها لن تمحى بذات السهولة من العقول.