«صنع في داغنهام»
لا تبدو حركة سير التاريخ مفهومة لكثيرين، ولا يعرف كثيرون حجم التضحيات التي قدمتها البشرية في طريقها الطويل حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم، وكيف حصل الناس على «حقوق»، تبدو اليوم بديهية، ولكنها لم تكن كذلك، بل حصلت عبر عملية تراكمية ما تزال مستمرة.
يقدم لنا التاريخ العديد من الأمثلة المتنوعة والمختلفة في المكان والزمان، فمثلاً تواصلت انتفاضات عبيد أمريكا منذ عام 1800 إلى أن نضجت ظروف إلغاء العبودية عام 1862، أما في روسيا القيصرية فقد جرت انتفاضات فلاحية واسعة إلى أن تم إلغاء القنانة عام 1861، وفي أوربا، حصل العمال على حق الانتخاب عشية تبلور أولى الحركات العمالية في منتصف القرن التاسع عشر، وحصلت النساء على حق الانتخاب لأول مرة عام 1913 وغيرها الكثير من الأمثلة في مناطق أخرى وأزمنة مختلفة.
«فورد».. نموذجاً!
قدمت السينما أفلاماً عديدة ومتنوعة، تروي قصصاً مختلفة، في محاولة لتسليط الضوء على بعض هذه التجارب، ورصد وقائعها، وملامسة مراحل مهمة من التاريخ البشري. يسرد الفيلم البريطاني «صنع في داغنهام» من إخراج نيغل كول، وبطولة (سالي هاوكينز، آندريا ريسبوروج، روزاموند بايك، بوب هوسكنس، وميراندا ريتشاردسون)، مثالاً صغيراً عن تضحيات الناس ومحاولاتهم المستمرة للحصول على حقوق المساواة تحديداً، يتحدث الفيلم عن قصة الإضراب الذي جرى عام 1968 في مصنع فورد للسيارات في مدينة «داغنهام» الإنكليزية، فقد قامت النساء بالاحتجاج ضد التمييز في أجور العمل بين الرجال والنساء، حيث كانت مهمة النساء في المعمل خياطة أغطية مقاعد السيارات، ولكنهن يتقاضين أجوراً أقل من الرجال بكثير، حسب قانون الأجور الذي كان سائداً في بريطانيا. مما اضطرهن للإضراب والتظاهر والمطالبة بالأجر المتساوي.
«عليكم بالانتظار.. »
قام المخرج نغيل كول، بالتركيز على تصوير الأدوات والطرق التي استخدمت حينها في محاولة لوقف إضراب العاملات عن العمل، ففي البداية قامت الحكومة باستخدام قادة النقابات البيروقراطيين للضغط على العاملات المضربات، وقدم هؤلاء للعاملات حججاً مختلفة لإقناعهن بوقف الإضراب وعدم جدواه، منها عدم توفر الاعتمادات في الميزانية الحالية أو الانتظار: «عليكم الانتظار لعدة سنوات أخرى وسيجري رفع الأجور بشكل تراكمي حتى تتساوى في المستقبل».
ثم جرى استخدام وسائل الإعلام، حيث قامت بإجراء لقاءات مع عمال في المصنع نفسها ليؤكدوا أن «الرجال ليسوا مع حق الأجر المتساوي للنساء». بالإضافة إلى وقف رواتب العاملات، وممارسة ضغط اقتصادي معيشي، بحيث ترك أثار مباشرة على عوائلهن، فبدأت المشاكل مع الأزواج والأبناء.. الخ.
وهنا تنشط الصحف في حملة إعلامية لا تتوقف من أجل: «وقف هذه المؤامرة الشيوعية». ويتوجه مراسلوها إلى ممثلة العاملات يسألونها: هل هي شيوعية؟ وهل ستقوم بإشعال ثورة اشتراكية في بريطانيا؟.. الخ. كما تبدأ المخابرات البريطانية بمراقبة للنساء المشاركات في الإضراب ومحاولة رشوة بعضهن والضغط على أخريات من أجل الانسحاب أو التحويل إلى المحاكم الصناعية بموجب قانون عام 1919.
مع ذلك لم تستطع الضغوط الممارسة على العاملات كسر الحركة، وتمكنت العاملات من انتزاع قانون الأجر المتساوي في بريطانيا عام 1970.
قصة «روز وشيلا»
الفيلم مقتبس عن أحداث حقيقية جرت في بريطانيا أيضاً، عن الحركة التي قادتها كل من «روز بولاند، وشيلا دوغلاس»، وأخريات، في السابع من حزيران 1968 لتصبح أجور النساء العاملات قريبة من مستوى أجور الرجال، حيث تقسم الأجور إلى فئة أولى للرجال، وفئة ثانية للنساء، وتوقف الفيلم عند هذا الحد.
في الواقع، هناك الكثير من الحقائق التي لم ترصد، منها مثلاً، تتمة لما ذُكر سابقاً، أن المساواة الكاملة في الأجور بين النساء والرجال لم تحدث فعلياً إلا بعد عام 1984 عندما قامت النساء العاملات بإضرابات كبيرة، تزامناً مع إضرابات عمال المناجم الكبرى في بريطانيا، وتم توجيه الضربة الأخيرة إلى التمييز في الأجور بين النساء والرجال!
بالإضافة إلى أن أول مساواة فعلية في الأجور بين النساء والرجال حدثت في الاتحاد السوفييتي بعد ثورة اكتوبر 1917، وبتأثير ذلك انتشرت في العالم حمى حركة النساء العاملات من أجل الحقوق المتساوية وما تزال بعضها مستمرة حتى الآن.