«من لا يليق بهم الهجرة»!
يكثر الحديث اليوم عن أوروبا العنصرية التي تغلق أبوابها أمام اللاجئين، وترفض الآخر المختلف، أو تخاف من تغير بنيتها الاجتماعية والثقافية جراء القادمين الجدد على صفحات التواصل الاجتماعي. لكن ماذا عن عنصرية السوريين أنفسهم إزاء السوريين؟ ولتوضيح نموذج العنصرية الذي نتحدث عنه لا بد من استعراض بعض العبارات التي طالعتنا الأسبوع الماضي، وبلسان من قالها.
تكون البداية من صفحة «عاهات بلادي في أوروبا» المخصصة لرصد ما يراه القائمون على الصفحة مدعاة للخجل «أمام الغرب». في الصفحة نرى صورة رجلٍ عربي يرتدي جلابية ويسير على الشاطئ بين عددٍ من المصطافين الذين يرتدون ثياب السباحة. حيث يتم السخرية من ملابس الرجل وهيئته على اعتبار أنه كان يجب أن يرتدي «شورتاً» ونظارة شمسية بمجرد وصوله إلى أوروبا كي لا يسبب لنا المزيد من الحرج. تكمل الصفحة على المنوال ذاته لتسخر من شبان سمر البشرة يرتدون ملابس متواضعة ويأخذون صوراً مع فتيات شقراوات. تنال هذه الصور أيضاً قدراً كبيراً من السخرية المبتذلة والفوقية التي ترى أن الشبان ليسوا أهلاً لأخذ صورة مع فتيات جميلات.
المطلوب.. صورة حضارية
وفي مناسبة أخرى، ينشر أحد الشبان السوريين على صفحته مقطعاً مؤثراً لرجل سوري يرمي نفسه وعائلته على سكة قطار احتجاجاً على منعه من دخول أوروبا الغربية. يرفق الشاب المقطع المصوّر بتعليقٍ يقول: «أوروبا خلفتك ونسيتك، حتى عم تنبحت يا ابن.. ما عاد ترضى بمخيم لجوء بأوروبا الشرقية، حصرياً بدك ألمانيا لأنو إمك حبلت فيك على جدار برلين».
وفي السياق ذاته أثارت موجة من الصور التي تم نشرها بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي موجة من الغضب، وتضمنت لقطات لسهلٍ أخضر ملوث بالأوساخ والقمامة التي خلفها اللاجئون وراءهم. سخر البعض من أن تلك الصور تتناقض و«بروتكول اللجوء» فيما لم يتوقف البعض الآخر عن إسداء النصائح عبر الفيسبوك حول ضرورة احترام البيئة والالتزام بمعايير الغرب وترك صورة حضارية.
«متخلفون».. مهما فعلوا!
وللمفارقة، نجد في موضعٍ آخر شاباً سورياً يستنكر التغيّرات المُفاجئة التي تطرأ على أبناء البلد بعد هجرتهم إلى الخارج، فيخاطبهم موبخاً:«ستهاجرون إلى أوروبا وتلتزمون بالقانون ولاترمون أعقاب السجائر على الأرض، ولا تدخنون في الأماكن العامة وستلبسون حزام الأمان في السيارة وتقفون في الطابور حتى لو بلغ طوله كيلو متر.. لو فعلتم كل ذلك في بلدكم لما تجرأ الأنذال على دخولها ولا دخلتها قطعان الخنازير من كل أصقاع الأرض».
في الحالتين لا يسلم المهاجرون من لسان المتذمرين، سواء تركوا خلفهم الفوضى، أو حاولوا احترام القوانين والمعايير التي تفرضها الحياة في الغرب. فهم في نظر البعض متخلفون في جميع الحالات.
«عنصرية».. طبقية!
تقدم الأمثلة السابقة نموذجاً على اتجاه عنصري قائم في جوهره على أسس طبقية. فالمهاجرون الذين يتلقون هذا الكم من السخرية، هم أولئك الفقراء، المغلوب على أمرهم. ذلك أن الشريحة التي تهاجم البسطاء من المهاجرين ترى بأن بلادنا يجب ألا ترسل للغرب سوى من يفهم لغته، ويسمع موسيقاه ويتقن رقصاته في الحفلات الصاخبة، بنظر الكثيرين، من يستحق أن يكون هناك، على الضفة الأخرى من الحياة، هو من يظهر قدرة أسرع على إخفاء هويته الحقيقية، وينخرط في المجتمعات الجديدة بحيث يبدو واحداً منها.
هؤلاء الذين يهزؤون اليوم من الرجل صاحب العباءة، أو الأب الباكي على سكة القطار لم يهاجموا رجال الأعمال الذين حملوا أموالهم وفروا هاربين بعد سماع أول رصاصة تطير في سماء البلاد، وهم ذاتهم الذين يسارعون لنشر أي خبر حول طالب سوري أظهر تفوقاً في جامعة أوروبية أو تمكن من اختراع جهازٍ ما. أولئك لا يهاجمون السوريات الجميلات، لأنهن بمثابة رسالتنا للغرب حول «سحر الشرق». ذلك أن الهجرة تليق بالعباقرة والأغنياء والجميلات. أما الفقراء فلا يستحقون ترفاً مماثلاً، خاصة بعد ترف فقدان الأبناء والأصدقاء وخسارة المنازل والممتلكات.
«شعب».. على «مقاسهم»!
هناك من كان يتغنى بالشعب دوماً، ويتكلم باسمه. لكنه أراد شعباً يفصّل على مقاسه، ينفع أن يوضع ضمن كادر صورة في مؤتمرٍ أو مقابلة تلفزيونية. وهو اليوم يخجل أمام زملائه في المهجر من هؤلاء الذين يحملون جنسية كجنسيته، ويسرقون الحقائب أو يعاكسون النساء، ويلوثون المرافق العامة. لا يقصد من كل ما تقدم تبرير السلوكات الخاطئة كالسرقة وتخريب الأماكن العامة. لكن القصد رفض منطق التعالي والاحتقار الذي يقابل به السوريون السوريين. من لم يفهم في السابق وقبل اندلاع الحرب، تركيبة المجتمع السوري أو مشاكله المعمقة التي عايشها مهمشوه، لا يتوقع منه أن يفهم اليوم.
بالتأكيد لا يوضع المهاجرون جميعهم في سلة واحدة، لكن فرزهم لا يأتي بأي حالٍ من الأحوال وفق ثنائيات: التخلف والثقافة أو النظافة والاتساخ، ومن تليق بهم الهجرة أو لا تليق.
لقد ظهر واضحاً كيف تناول الإعلام «العالمي» مسألة اللاجئين السوريين وخصص لها مساحات واسعة، مركزاً على جانبها الإنساني، ومتجاهلاً البعد السياسي للكارثة التي يعيشها السوريون، والتي تفترض إيجاد حلولٍ حقيقية لهذه المشكلة ومعالجتها جذرياً. ورغم ذلك هناك اليوم من السوريين أنفسهم من يجلس خلف شاشته، وجعل مهمته تصيد المواقف، والسخرية من أبناء جلدته، ليكمل اللوحة.