العجوز المحتضرة
في احتضار العجوز، تستعصر الشمطاء ما في وسعها، لتنفث سموم اليأس والخنوع بمن حولها وتثبط من عزيمتهم. هم سئموا الليل، وفارق النعاس جفونهم، ضاق عليهم يومهم. فلم يتبق لهم، سوى أن يحفروا بأظافرهم في كل تربةٍ، وعلى كل حائطٍ، ومع كل نسمةٍ، - قبراً - تتسع له كتب التاريخ القادمة، كذكرى وبالٍ جماعيٍّ مقيتٍ فانٍ..
في كل العصور، كانت موائد القصور تُلغي نهم العامة للرفض، حين يُرمي لهم من الشرفة بالفتات، و توجه أنظارهم بدهاء خبيث نحو الأعلى، الأعلى، نحو السماء..
تخافهم حين يجتمعون، فتخيفهم قائلةً: ابحثوا بعيداً بين الغيوم عن منزلٍ أفضل، هناك حيث الأنهار، كل الأنهار لكم، وهنا إن عطشتم فادفعوا ضريبة المياه أولاً ثم ارتووا.
هناك النور المتقد، وهنا ما من كهرباء ولا من نور، هناك لكل منكم قسمتهُ ونصيبه، وهنا نصيبكم بين أنيابنا وقسمتكم مهمتنا. هناك، عدل سماوي ونارٌ لاهبة، وهنا العدل ثوب فضفاض على مقاس خصر الحاكم، يخط سطوره كلما هز بخصره طرباً على وقع موسيقى قدّاسنا الجنائزي.
ونحن في قلب الرأسمالية الشائخة، تنبض قلوب أطفالنا نبضتين، كل ثانيةٍ أو كل رصاصةٍ، لا فرق، نبضة قلقٍ، ونبضة رفض.. قلقٍ، من راهنٍ بات يحسبنا أرقاماً لا غير! في منظماتٍ عبثية تستهلك الأبدان، أو على شاشاتٍ تستهلك العقول، أو في مقابر مبهرجة، كالسلع البراقة على رفوف «المولات»! ورفضاً، يمحق كل هذا الراهن، متطلعاً لآتٍ أكثر أنسةً. وأقل غربةً، علّنا نعيش فيه ما نستحق من حياة، أو يعيشها من بعدنا أبناؤنا، أو أبناؤهم، أو أبناءُ أبنائهم..
في قلب الرأسمالية الشائخة، تغرق كل نفسٍ في نفسها، تسبح وسط تلاطم أمواجٍ تظن أنها تستهدفها وحدها! تسبح عكس كل التيارات، حريتها فرديتها، فلا تلتفت لقومها إن غرقوا! وتهادن الريح! ترفع كل الأشرعة، ولا تكترث إن أُحرقت كل المراكب! فهي تجيد السباحة في بحر أوهامها الشخصية البغيضة.
ونحن في قلب الرأسمالية الشائخة، نغني خلسةً حرصاً على ألا تباع أغنياتنا في سوق الضجيج المزدحم بشتى أنواع الصراخ، ما الذي يدفعنا للغناء؟ ثمة آذانٌ بريئةٌ من كل هذا! في قلب الرأسمالية الشائخة ، فتاة تبيع شهوتها في بيوت الهوى! شاب يقتني عاطفةً بلاستيكيةً! كالطماطم المستوردة في قريةٍ فلاحوها عاطلون عن العمل! فتاوى تصدّر عبر الحدود! ديوان شعرٍ ممهورٌ بختم صندوق النقد الأدبي أو الدولي!
في احتضار العجوز، تستعصر الشمطاء ما في وسعها لتنفث سموم اليأس والخنوع بمن حولها، وتثبط من عزيمتهم. هم سئموا الليل، وفارق جفونهم النعاس، ضاق عليهم يومهم. فلم يتبق لهم، سوى أن يحفروا بأظافرهم في كل تربةٍ، وعلى كل حائطٍ، مع كل نسمةٍ - قبراً - تتسع له كتب التاريخ القادمة، كذكرى وبالٍ جماعيٍ مقيتٍ فان.. لها الماضي ولنا من بعدها كل الفضاء.