الذاكرة المثقوبة
يقف الرجل مشدوهاً، أمام الشاشة الصغيرة، تؤكد زوجته بإصرار: هذا حيّنا. يصدمه المشهد، يحاول أن يتذكر، هنا كان بيته، ، الدمار يكتنف كل شيء، ضاعت ملامح الحي كله، لا شيء سوى الركام، ورغم أنه يعرف المكان كما يعرف نفسه، إلا أنه لم يميز شيئاً مما يراه، ورغم أنه يملك ذاكرة، يتباهى بها، لكن اختلطت عليه الأمور، أحس بثقب هائل في إدراكه، هذا ليس حيّنا!
صورة مكررة، يعرفها الكثيرون ممن اضطروا إلى ترك كل شيء وراءهم للدمار...
تتكفل وسائل الإعلام بتصنيع ذاكرة جديدة لنا. تستخدم فيها أحدث تقنيات التوثيق بالصورة، ضمن سياق محدد وموظف باتجاه ما. يستقبلها إدراكنا البصري الهش، لتصبح جزءاً من ذاكرة مثقوبة يسَّاقط منها الكثير.
الصور مفاتيح، تفتح أبواباً أغلقها النسيان. الصورة تتكلم، يغطي تعاقبها السريع كل شيء، تلتقط تفصيلاً ما، تختزل فيه الكثير من الحكايات، وقد تحكي الصورة ذاتها قصصاً جديدة.
التكثيف في المشهد يجعل الأخير صعياً على الفهم. لا تَعلق كل التفاصيل في الذهن، ولا يتمكن شريط الذاكرة البشرية من اختزان كل شيء، يمر المشهد سريعاً، ويمضي تاركاً المكان لمشهد آخر، وحدث آخر. غالباً ما يتلاشى اهتمام الناس بالحدث بعد مرور وقت قصير. ولا أحد يتكلم عما أوصلنا إلى هنا، فقد أخذ الحدث اليومي دور البطولة. يترك الحدث، مهما كان جللاً، مكانه لحدث آخر يفرض نفسه على الساحة، وتحت الضغط الذي يعيشه الناس أثناء الأزمات، والتعب النفسي الذي يعانونه جراء تلاحقها عليهم، يفقد شريط الذاكرة هذا جزءاً من مساحته.
أما الجرعة المطلوبة من الإثارة والتكرار لأي مشهد، فيتحكم بها صنّاعها، حسب الطلب، وهم أكثر من يعرف، أن ذاكرة الإنسان، تختزن تجربته وتمنعه من الهزيمة، في محاولة لإعادة رسم الأحداث و الأزمان التي مرت على غير ما كانت؟ وحتى الأمكنة، رغم أن لها ذاكرة لا تشيخ، لا تسلم من ذلك. ماذا سيكون التاريخ عندها؟ ما الذي سيملأ ذاكرة الأجيال الجديدة ؟ ماذا سيبقى لهم سوى ذاكرة تستدعي كل الوجع.