موسكو 1941... موسكو 2015

موسكو 1941... موسكو 2015

تتمتع الرموز بأهمية تكاد تكون حاسمة في مختلف الصراعات العالمية، وحين تكون القضية التي يجري الصراع من أجلها قضية عادلة، فإنّ ذلك نفسه ينعكس في طريقة استحضار الرموز وتظهيرها، ويجري في هذه الحالة التركيز على تكثيف قيم الجمال والخير في الإنسان عبر أبطال تاريخيين أو صور وأناشيد وغيرها..

مع وصول جحافل الفاشية إلى ضواحي موسكو، بعد أن تهاوت الجبهات السوفيتية، على الرغم من مقاومتها الشرسة، كان اليأس قد بدأ يستقر في النفوس ثقيلاً، ليس نفوس السوفيت فحسب بل كان العالم أجمع يترقب بقلق، إذ كان لسقوط موسكو إذا ما تم، آثارٌ خطيرةٌ على تطور مجريات الحرب، في هذه اللحظات بالذات أخذت القيادة السوفيتية تشحذ الهمم بشتى الوسائل، وأخذت تطبع الملصقات بكميات كبيرة بمقاييس تلك الفترة، ذكّرت هذه الملصقات بمآثر الأبطال القدامى وأظهرت جنود الجيش الأحمر بموقع الأبطال الذين يُسقطون النازيين أمامهم مهزومين،  واستحضرت العديد من الوقائع المفصلية مثل معركة (بورودينو) عام 1812 فحمل أحد الملصقات  الشهيرة رسمين، الأول يصور فلاحاً ينقض بشراسة على أحد الجنود الفرنسيين ويظهر على الملصق تاريخ 1812، والرسم الثاني الشهير أيضاً يكاد يكون مطابقاً للأول، ولكن بدلاً من الفلاح هناك جندي من جنود الجيش الأحمرالصلبين ينقض على نازيٍ هزيل.


 

!مشهد أسطوري

في هذه الأثناء أخذت القيادة السوفيتية قراراً بإقامة عرضٍ عسكري مهيب في الساحة الحمراء احتفالاً بالذكرى 25 لثورة أكتوبر، بدا هذا القرارغير منطقي، ولكن ستالين أصر وحُدد الموعد في 7 تشرين الثاني 1941. جرت التحضيرات بسرية تامة، حتى أن الجنود المشاركين لم يعلموا إلا قبل ساعات، وكان هذا مفاجأة مزعجة للنازيين، استطاع هذا العرض بنجاحه تكريس صور لن يكون من السهل إزالتها من وعي الشعوب. مرّ الجنود في الساحة الحمراء مدججين بسلاحهم متوجهين إلى مواقعهم القتالية بالجبهة، تم انتقاء كادر كل صورة ولقطة بعناية شديدة مما ظهَّر صلابة الجنود وعزمهم، وشكل مشاهد جذابة مثل مشهد الفرسان على الخيول وعربات المدافع التي تجرها الخيول البيضاء. جرى كل هذا في ظروف مناخية صعبة، إذ كان الثلج يتكدس فوق الجنود والمعدات أثناء مرورهم، مما أضاف لمسات سحرية على المشهد العام ليصبح أقرب لمشهدٍ أسطوري. 

(صورة من العرض في العام 1941(

صناعة النصر

ألقى ستالين خطاباً في هذا اليوم أولاه أهمية خاصة، إذ تذكر بعض المصادر التاريخية أن مشاكل تقنية حالت دون تسجيله في يوم العرض، فعاد ستالين إلى الساحة الحمراء في اليوم التالي وأعاد الخطاب ليكتمل الفيلم الذي بث على الشاشات، ألقي الخطاب بصوت هادئ حمل التطمينات للحشود، وحمّلهم مهمة صعبة وهي تحرير الوطن وشعوب أوربا كلها من الاستعمار الفاشي: «... لا يوجد لدينا اليوم نقص حقيقي في المؤن ولا في السلاح ولا في اللباس، كل بلدنا وجميع شعوب العالم تدعم اليوم جيشنا وأسطولنا، وتقدم لنا الدعم بغية سحق قطعان الفاشية الألمان. لا يوجد لدينا أدنى شك في أننا نستطيع، ويجب أن نستطيع، تحقيق النصر على المحتلين الألمان، ينبغي علينا أن نحقق ذلك ... عدونا ليس قوياً إلى تلك الدرجة التي يحاول تصويرها لنا أولئك الجبناء الذين يدّعون أنهم مثقفون». 

تحدث المؤلف ريتشارد كاسالابوف في كتابه «الكلمة الآن للرفيق ستالين» عن هذا العرض «لقد جمع ستالين بشكل مختصر جداً بين الدوافع الوطنية والأممية، إذ قال: تنظر إليكم الشعوب المستعبدة في أوروبا، التي وقعت تحت نير المحتلين الألمان، وترى فيكم القوة التي سوف تحررها من المحتلين، أنتم اليوم تخوضون حرباً تحريرية، وحرباً عادلة، تذكروا أجدادنا العظماء الكسندر سوفوروف ومخائيل كوتوزوف! فلتظللكم راية لينين العظيم المظفرة»

كان لهذا الحدث بمعناه الرمزي كبير الأثر على الجيش الأحمر، الذي انقض بعد مقاومة شرسة بهجوم معاكس لم يتوقف إلا بعد النصر في برلين، كأحد الأمثلة استضاف برنامج «رحلة في الذاكرة» على قناة «روسيا اليوم» الملازم بوريس رونوف بطل الاتحاد السوفيتي الذي استطاع أن يأسر حوالي 800 جندي نازي وهو في التاسعة عشرة من عمره. وضح رونوف الدور الأساسي الذي لعبه العرض في رفع معنويات الجنود ومعنوياته شخصياً، حيث كان النصر هدفاً أكيداً..

منذ أيام استضافت الساحة الحمراء نفسها في الذكرى السبعين للنصرعلى الفاشية، عرضاً عسكرياً ضخماً شاركت فيه عشر دول وحضرته ثلاثون دولة. بمجرد النظر إلى العرض ضمن الظرف المحدد الراهن، نستطيع أن نقرأ بوضوح ما له، ليس من بعد روسي فحسب، بل ومن بعد عالمي يرتقي إلى درجة إعلان رسمي لانتهاء العالم القديم، عالم الشرطي الأمريكي، مقابل القطب الجديد الذي يجد نفسه في مرحلة تشكله، بمجابهة جحافل الفاشية الجديدة. في ارتباط واضح مع المهمة الإنسانية الكبرى التي أداها هذا البلد وشعبه سابقاً، والتي ينهض اليوم للاستمرار في أدائها.


(على اليمن صورة من العرض العسكري 1941 والصورة الثانية من العرض في 2015 يطهر في الصورتين الاستخدام المشابه للرموز)

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
00
آخر تعديل على الجمعة, 16 نيسان/أبريل 2021 16:38