«حاصر حصارك.. لا مفر»!

«حاصر حصارك.. لا مفر»!

«إن الإنسان لا يخاف الموت، إذا كانت له قضية يفنى من أجلها، فإنها تخلق في نفسه القوة، وسيموت مطمئن الضمير، حتماً، إذا كان يحسب أن الحقيقة إلى جانبه، ومن هنا تأتي البطولة».  نيكولاي أستروفسكي.

«أصيب محمود»، نادى الشاب بصوت عال ونبرة متوترة على زميله، الذي بالكاد سمعه رغم قربه منه بسبب أصوات القذائف التي تنهمر عليهم كالمطر. في قصر توما يلدا، في بلدة تل تمر، تجمع الشباب الصغار حول زميلهم المصاب. كانوا أمام خيارين، أن يأخذوا زميلهم المصاب وينسحبوا، ولكن وضعهم العسكري لن يكون آمناً في هذه الحالة، ثمة مخاطرة ومجازفة كبيرة إذا فعلوا. ولكن محمود حسم الموقف، واختار الخيار الثاني، أن ينسحبوا دونه، اقترح عليهم، «سأغطي ظهوركم، ولن يعرف «داعش» أنكم تنسحبون، هكذا سيكون آمناً أكثر» قالها الشاب الجريح بصوت مخنوق. «قد تموت بهذه الحالة»، أجابه أحد زملائه. «ولكن هذا سيكون أفضل لكم..» وهكذا حسم الشاب خياره، واختار الموت لينقذ رفاقه في السلاح.. وفعل.

لم يفكر الشاب محمود الذي تجاوز ما تروجه وسائل الإعلام عن انتماءات دينية أو عرقية أو طائفية لصالح ما هو وطني وإنساني،  بمواقف بطولية عندما قرر مع مجموعة من الشباب أن يدافع عن بلدته الصغيرة وأرضه وبيته. لم يدافعوا عنها تلبية  لنداء أدعياء السياسة، كان القرار بسيطاً عندهم: ليس أمامنا سوى القتال!.

محمود ورفاقه، نموذج بسيط، يتكرر يومياً هنا وهناك داخل الجغرافيا السورية. هم نماذج حية تظهر في الميدان، ووقائع حقيقية وبطولات مذهلة ومدهشة في تعبيرها عن وعي شعبي جمعي يمثل المقاومة الشعبية الحقيقية ويحقق انتصاراً للذات الإنسانية على محاولات تشويهها، وعلى إظهارها بمظهر الخاضع الذليل، الخائف المغلوب على أمره.

ما جرى ويجري هي مشاهد حية وحقيقية بلا سيناريو ولا إخراج، تناقلها الناجون من الموت، رووها لذوي الأبطال والناس. مشاهد لم تلتقطها كاميرات الإعلام ونشراته الإخبارية المسائية، وهي تسرد أعداد القتلى، والمخطوفين، وتتفنن بإظهار الأساليب المروعة التي استخدمت لترويع الناس وإرهابهم وإخضاعهم ودفعهم للقبول بأي شيء مقابل انتهاء هذا الكابوس.

قد يكون صحيحاً أنه عادة ما تظهر الأزمات والظروف القاسية تلك الجوانب الخفية والمخبوءة في دواخل الشخصية الإنسانية، السلبية منها والإيجابية، وقد فعلت الأزمة في سورية فعلها، وأثرت في الناس ومازالت. في الحالة السورية، ثمة من يحاول دفع الناس إلى الانقسام، وتكريس حالة من انقسام وهمي بين أناس يعيشون الظروف نفسها ويتقاسمون هماً واحداً، ويتربص بهم  خطر واحد.  فليس هناك ثقة بأحد، ليس هناك ثقة في شيء، حالة من الارتباك والخوف تسيطر على الجميع وتمنعهم من التصرف والفعل،  يتحول سلوك الإنسان إلى محض ردود فعل على ما حصل ويحصل له..

مازالت الأمهات ينتظرن عودة أولادهن أحياء. ما زلنا نتذكر العقيد «شدود» ونداءه «أنا من سورية، من بلدنا، من وين ما كنت تكون أنت أخي..». مازال حياً ومستمراً أمامنا النموذج الذي صنعته شابات كوباني وشبابها في دفاعهم المستميت عن حياتهم وبيوتهم، وتحقيق الانتصار. مازالت الأزمة قائمة، تشهد على مئات المواقف الحية والنماذج البسيطة والعميقة عن إرادة الحياة عند الناس ورغبتهم ومحاولتهم قهر القهر الذي يعيشونه والانتصار.

كل هذه النماذج، تخالف الصورة النمطية التي كوّنها إعلام البازارات والحلبات. الشعب السوري ليس مهزوماً، وليس خاضعاً وتابعاً بلا مولى أو نصير. ينتصر له أبناؤه يومياً، مدافعين عن حقه بالبقاء، مضحين بحياتهم دون ذلك.. هذا هو القسم المغيّب من الصورة!...