من هي السيدة (ديمقراطية)؟
بين النصب القيمة التي وصلتنا من عهد أثينا القديمة لوحة فنية حُفرت بأسلوب النقش البارز في الرخام الأبيض تمثل «السيدة ديمقراطية» وقد ارتدت ثوباً طويلاً محتشماً، تُكلّل بيدها اليمنى، ديموس (الشعب) الجالس على عرش السلطة، وقد نُقش أسفل تلك اللوحة نص دستوري يحمل عنواناً مميزاً (قانون ضد الطغيان يحمي حقوق الإنسان).
يعود هذا النصب الرمزي إلى عام 326 قبل الميلاد. وقد وجد في الميدان العام بأثينا. والنص يفسر معنى الديمقراطية عند الأثينيين. Demokratia كلمة يونانية قديمة تعني قوة الشعب، حيث Demos تعني الشعب، أو المواطنين، أو الجمهور، أو عامة الناس، أو الكافة. وكانت كافة القرارات التي تخص المجتمع الأثيني يتم البت فيها في العلن. وتناقش القرارات المهمة نقاشاً عاماً أمام الجمهور، ثم يجري التصويت عليها من كافة أفراد الشعب.
غير أن عدداً من ذوي الجاه والثراء الأثينيين أرادوا التميز عن العامة وأن يسيروا دفة سفينة المجتمع بأنفسهم، بالاتجاه الذي يرغبون. وفي المقابل كانت عامة الأثينيين متمسكة بمبدأ المساواة في حق إبداء الرأي بين المواطنين كافة. كان هذان الاتجاهان في صراع دائم، ومع هذا فقد استمرت الديمقراطية الأثينية قائمة لفترة تقرب من مائتي عام ولم تتخللها إلا أحداث قليلة نسبياً من الصراعات المدنية العلنية بين العامة والصفوة، ويدل تاريخ أثينا المستقر نسبياً على أن سكانها قد وجدوا سبيلاً للتعايش معاً في ظل «السيدة ديمقراطية».
والديمقراطية عند الأثينيين ليست، إعفاء من كل القيود فقط، بل إنها في الواقع أكثر الاستخدامات فعالية لكل قيد عادل على كل أعضاء مجتمع حر، سواء كانوا حُكّاماً أم رعايا.
فمثلاً اتهم المواطن ديموسثنيس -المشرف الرسمي عن جوقة الإنشاد في المسرح الوطني- المواطن ميدياس بالاعتداء عليه. وقد أدانت الجمعية الوطنية هذا الاعتداء إلا أن رأي الجمعية كان توبيخاً أدبياً أكثر منه عقوبة، ولذلك كان لزاماً على ديموسثنيس أن يقيم دعوى أمام هيئة المحلفين. وقد فعل ذلك في أحد الأيام. ماذا كانت جناية ميدياس؟ وما علاقة هذه القضية بالديمقراطية؟
حسبما جاء في مرافعة ديموسثنيس أمام هيئة المحلفين المؤلفة من خمسمئة محلف تم اختيارهم من المواطنين الذين تزيد أعمارهم عن الثلاثين عاماً، وسمح لكل منهما بأن يقضيا بضع ساعات ليلقي خطبته أمام المحلفين. فقد لكم ميدياس أنف ديموسثنيس فسال دمه في فناء المسرح. ولم تكن اللكمة مجرد إصابة جسدية، وإنما كانت إهانة ارتكبت عمداً وعلى مرأى من الناس، واعتبر ديموسثنيس أن الاعتداء عليه لم يكن إهانة لشخصه فحسب، وإنما لمجموع المواطنين، وللأحكام الاجتماعية التي تمثلها السيدة ديمقراطية.
تبحر خطبة ديموسثنيس بمهارة فائقة في كشف عورات الصفوة السياسية، فصوّر ميدياس في شكل رجل عريض الثراء واسع السطوة، ولذلك فإنه يتسم بالصلف وباحتقار من هو أدنى منه، ويضيف ديموسثنيس أن الأسوأ من ذلك أن ثراء خصمه زاد من سطوته إلى الحد الذي شجعه على تحطيم المواطنين العاديين الذين قد يعترضون طريقه، وبالتالي تحطيم الديمقراطية وتدميرها. إن سلوك ميدياس مثال من أنماط السلوك المعادية للديمقراطية التي يضمرها الأثرياء من الصفوة، فالأغنياء يتطلعون إلى السيطرة على الدولة، وإذا ما تحقق لهم ذلك فإنهم لن يرحموا الإنسان العادي. ويرسم ديموسثنيس لنفسه صورة رجل متوسط الحال وواحد من المشاة العاديين. وتفصح خطبة ديموسثنيس ضد ميدياس عن المعنى التقليدي للديمقراطية، وذلك بإظهار كيفية تحول الحقوق المدنية إلى قوة قانونية لا يمكن التغلب عليها من خلال استخدام نظام عمل السيدة ديمقراطية.