عودك رنّان

عودك رنّان

عندما نستمع إلى أوتار عود ترن  بين أنامل العازف المجيد نزيه أبو الريش،  فكأننا نهجر عالم البشر والأشياء، ونلج عالم الفكر والمشاعر والسحر. أو على أقل تقدير، هذا هو أحد الانطباعات الكثيرة التي تورثها تلك النغمات الباقيات عبر عصور مديدة من الحياة الروحية للبشر.

ما السرُّ وراء هذا السحر الموسيقي؟ ما السرُّ  في الانبهار بجملة موسيقية معقدة  تجعلنا نشعر بالانبساط. يظهر هذا الأمر واضحاً قرب ختام مقطوعة موسيقية يبلغ فيها التعبير والانفعال قمته.
نعم تغمرنا السعادة ويشتدُّ ارتباطنا بالموسيقا عندما نتابع بناء جملة موسيقية تستهوينا وتأسرنا. انظر إلى ما  أضفَتْ الأسطورة اليونانية على موسيقا أورفيوس من سحر، فقد جعلت الحيوانات وحتى الأشجار والصخور تتبعه حين يعزف. ما السرُّ في هذا؟ ولماذا كان كثير من  المستمعين  إلى الغناء والموسيقا يفقدون صوابَهم؟
حدثنا أبو الفرج الأصفهاني في أغانيه  عن حالة  المؤرخ والأديب أبو عبيدة المرزباني حين سمع جارية عذبة الصوت  قد أجادت في شدوها، فماذا فعل؟ ضرب بنفسه الأرض، وتمرغ في التراب، وهاج وماج، وتعفر شعره، وعض بنانه، وركل برجليه، ولطم وجهه، وهات من يستطيع ضبطه ومسكه، ثم خرج كأنه عبدالرزاق المجنون بباب الطاق في بغداد.

صرخة الروح..

القدرة السحرية للموسيقا.. ما هو سرّها؟ وكيف استطاعت أن تجنّن  حتى الفقهاء ورجال الدين؟ انظر  كيف يفقد بحارة أوديسيوس رشدهم أمام غناء الفتيات فتنصحه العرافة بأن يضع شمعاً في آذانهم. هل يكمن السرُّ في الضرب على أوتار التوجع والحزن الدفينين في أعماق البشر؟
وإذا كانت الموسيقا الرفيعة  صرخة الروح في جوهرها، فلعل ذلك يعني أن الهموم والآلام سُلّم إلى الكمال كما يقول بيتهوفن. فعنده أن المرء لا يستطيعُ تفادي الهموم، وفي هذا الإطار ينبغي له أن يصمد أمام هذا الامتحان، أي أن يتحمل ويعرف كيف يحقق الكمال. وكذلك يرى شوبرت أن الألم يشحذ الذكاء ويقوي الذهن في حين لا تفعل ذلك المسرات. وهذا يعيد إلى أذهاننا المقولة الأرسطية حول تطهير العواطف أو السموّ بها، بواسطة الفن.
 ولكن بعض الباحثين في  فلسفة الفن والموسيقا لا يستطيعون فهم كيف يستعذب المرء الأسى أو الألم في الموسيقا. لأنهم يرون ذلك مخالفاً لطبيعة الأشياء. ولكننا نتساءل مع الروائي العظيم ستندال صاحب رواية الأحمر والأسود: ما الموسيقا بلا لمسة حزن؟  بالفعل إن الموسيقا الحزينة قد تريحنا، وتسرنا، وحتى تسعدنا. ضرب غريب من الحزن يجترح السرور. هل هذا ما يفعله  نزيه أبو الريش في موسيقاه؟ 

بديل الكلمة..

تبعث المفردات الموسيقية الواسعة أو الهائلة التي تنطلق من بين أنامله على الإعجاب، وأكاد أقول إنها تنطوي على إشعاع مقدس نابع من القلب قبل أن تتجسد في الوتر الرنان. هذا البعد الروحي في موسيقا نزيه أبو الريش يجعلنا نذوب وجداً، ونُحس كأننا نعيش في داخل الموسيقا وننتمي إليها، ونستعذب ديمومة أو دندنة نغمة واحدة على مدى دقائق مثلاً أو أكثر. وعندما نخرج  يستمر  تأثير الموسيقا فينا لدقائق أخرى. وعندما تُرافق آلة  الكمان  عزف عود نزيه أبو الريش يتقطر لحناً شديد العذوبة، ويبرز الدور الملائكي عن طرق صوت الكمان الأثير الساحر.
ولا بد من الإشارة إلى أن الخلفية التي ترسمها أو تؤديها الآلات الأخرى المرافقة تلعب دوراً كبيراً أيضاً في إضفاء الجو الملائكي على المقطوعات التي يعزفها. ما السرُّ في هذا السحر؟ بالنسبة لي أجد أن المُبدع نزيه أبو الريش خُلق لهذا العمل، فالكلمة وحدها لا تستطيع التعبير عن الرمزيّة الكونية،  فتحضر الموسيقا لتسمو بالبشر فوق هموم الحياة اليومية.