دفاعاً عن الحياة

دفاعاً عن الحياة

تخيّل أنك في مقهى صاخب. تخرج كي تستنشق القليل من الهواء وحين تشق طريقك عائداً إلى الداخل وسط الضجيج، تسأل نفسك كيف احتملت الجلوس هنا كل هذا الزمن. كيف لم تنتبه أنك كنت تختنق، وأن الضجيج سبب لك كل ذلك الصداع. تتوق للخروج، تريد فقط أن تدفع الحساب وتأخذ حقيبتك وتمضي.. الحرب هي ذلك المقهى الصاخب. لا تدرك كم أتعبك حتى تخرج منه لتشم القليل من الهواء. وحينما لا تجد طريقك للخروج، تبقى حبيس الغرفة المغلقة. يغدو الضجيج صوتاً رتيباً مألوفاً. صوت السكون. ويصبح الدخان رائحة الحياة.

إذا ما كنت محظوظاً، تستطيع أن تطلب من البلاد إجازة خاطفة. ستخبرها بأنك ستعود بعد قليل. في السفر تكتشف صورتك مرةً أخرى في عيون الغرباء، تعود قطعة واحدة متماسكة الأواصل لم تتكسر أو تتفتت. تعود فستاناً مغسولاً لم تلوثه الحرب. 
في البعيد هناك، تكتشف أنك ولكي تعتاد الحرب، كان لا بد من أن تصبح أقل تعلقاً بالحياة. وبكل تلك المنمنمات والبهارات التي تمنحها طعمها ومغزاها. كان عليك أن تتصالح مع خيبات الحب أسرع. تعتاد الحر والعيش في الظلام، تعيش ربع حياة بدلاً من واحدة كاملة. أنت في الحرب أعمى مصابٌ بالزكام فقد كليته وأصبع قدمه الأيسر.
ربما يكون الأخطر في ذلك كله فقدان وحدات المقارنة، التي تتيح المفاضلة بين حياتك وحيوات الآخرين.  ترى الأيام تنسكب في إناء مكسور. تظن أن الجميع حول العالم ينتظرون عودة التيار الكهربائي مثلك. الجميع مثلك يخافون صوت الألعاب النارية ويستشعرون طعم الصدأ في كأس الماء. كما لو أنك كنت تسير طوال الوقت وسط الضباب، صيفاً شتاءً، بحيث تعودت عيونك أن تنظر حولك دون أن ترى. تتلمس طريقك كخلدٍ تحت الأرض، ظن أنه سيظل إلى الأبد حبيس متاهةٍ رمليةٍ مغلقة.
لكنك بعيداً عن الحرب، ولو استطعت الهرب للحظة واحدة فقط. لو تسللت من بابٍ خلفي أو فتحت ذراعيك لاستقبال صديق مسافر -سفير للحياة من بلدان سعيدة-  أو ذهبت في رحلة مع الذكريات تتوقف فيها عند أكثر محطات حياتك جمالاً، ستفطن من جديد بأنك غير راضٍ. وأن حياةً كهذه لا تكفيك. ربما ستصيبك نوبة ربو مفاجئة، كما لو أن الهواء الفاسد تدفق دفعةً واحدةً إلى رئتيك. ربما تضع يدك على رأسك محاولاً إيقاف الصراع، ستشعر بالألم، لكن ذلك حسنٌ، لأنه يعني أنك تحس وما زلت على قيد الحياة، تقاوم، وترفض.
ماذا سيحصل إن لم نستطع جميعاً الخروج خفية لتنشق الهواء بحيث نترك المقهى فارغاً؟  لم يكن كل ما قيل عن الدخان والخلد والماء الصدئ بغرض الشكوى والتململ. لم يكن أيضاً نيلاً من العزيمة واستخفافاً بما اضطررنا أن نعيشه ولم نختره. بل كان دفاعاً عن حقنا في الحياة بمعناها الأوسع لنا جميعاً. دفاعاً عن الابتسامات والضحكات العالية، وعن خفقان القلوب، وذلك الإحساس الغامض بأن الحياة رحلة على متن  درّاجة تنحدر مسرعة إلى المجهول.