اليهود في رواية (الجندي الطيب شفيك)
أصدرت وزارة الثقافة هذه الرواية مترجمة عن النص الإنكليزي منذ سنوات. قرأت الرواية بشغف ورحت أخط بالقلم الرصاص تحت السطور التي تتحدث عن مناقب اليهود في الإمبراطورية النمساوية, مسرح أحداث الرواية, التي تحكي سيرة الجندي الطيب شفيك في الحرب العالمية الأولى.
وقد أعدتُ قراءة الرواية من جديد بعد أن شُغِلَ العالم بما يفعله الجنود اليهود في غزة. وقد شاهدنا المتدينين اليهود قرب المدفعية الثقيلة وأرتال الدبابات وهم ينفخون في الأبواق ويتلون التوراة لمساعدة الجنود اليهود في تحقيق إصابات مؤكدة.
حسبتُ أول الأمر أن المؤلف التشيكي «ياروسلاف هاشيك» قد تجنى على اليهود في روايته, ولكن بعد التدقيق وجدت أنه وصفهم كما هم في الواقع، يعيش اليهود في الرواية كالبشر, يأكلون ويشربون, يبيعون ويشترون, يمارسون حياتهم اليومية، فهم من نفس الطين الذي جبل منه البشر. إلا أنهم غير كل البشر. هم من ملّة أخرى, صنعوا من الصور القديمة فتنة أو محنة, كانوا يجرون في الدنيا لعل الدرب يأخذهم إلى درب النجاة. النجاة من ماذا؟ هم لا يعرفون, صنعوا خرافتهم كما شاءوا, وشادوا من عذابات الشعوب مصيرهم, توزعوا في الأرض وتعودوا السفر في عربات الآخرين. من كل شعب ألفوا أسطورة كي يشبهوا أبطالها, عما كانوا يبحثون؟ ها نحن نصادف الأحفاد في هذه الرواية وسط أوروبا بداية القرن العشرين, في شخصية يهودي نموذجي.
«اقتلوا اليهودي العجوز المسكين..»
فحين انقطعت السبل بكتيبة الجندي الطيب شفيك في خطوط الجبهة الأمامية, وراح يبحث مع رقيب أول الإمدادات في أرجاء إحدى القرى عن أي حيوان يؤكل, أيقظا يهودياً في حانة, فراح يشد خصلات شعره معبراً عن أسفه العميق بأنه لا يستطيع مساعدتهم. وفي النهاية جعلهما يشتريان منه بقرة عجوزاً، كانت عبارة عن هيكل عظمي حي هزيل، وقد طلب سعراً مخيفاً كثمن لها. وأقسم أنهما لن يستطيعا أن يجدا بقرة مثلها. وطوال الوقت كان ينتحب ويبكي ويقسم بأغلظ الأيمان أنها أسمن بقرة جاءت إلى العالم بأمر من الإله «يهوه». ثم ركع أمامهم على الأرض وقال باكياً: «اقتلوا اليهودي العجوز المسكين إذا أحببتم ولكن لا تذهبوا دون بقرته».
وقد اتهم الجندي الطيب شفيك بأنه يهودي قذر, وحكاية اتهامه طريفة فقد وصل إلى بحيرة صغيرة حين تاه عن مكان فوجه, فصادف أسيراً روسياً هارباً يستحم في البحيرة. وحين لمح هذا الأسير شفيك هرب على الفور عارياً. كانت البزة الروسية تحت الشجرة وأراد شفيك معرفة كيف ستبدو عليه البزة, لذا خلع ملابسه ولبسها. وألقت عليه القبض دورية كانت تبحث عن الأسير الهارب.
ورغم احتجاجه إلا أنه وضع ضمن قافلة الأسرى الروس الذين جمعوا في الساحة. صاح الرقيب الأول: من يعرف منكم الألمانية؟ تقدم الجندي الطيب شفيك، فسأله الضابط: أنت يهودي؟ هز شفيك رأسه. رد الرقيب الأول: لا حاجة للإنكار, كل واحد منكم أيها الأسرى يعرف الألمانية يهودي, اسمع أيها الأسير سأعيّنك مشرفاً على قافلة الأسرى, كما ستقوم باستلام تعيينات الطعام لهم. وإذا ما هرب أي واحد منهم أيها الولد اليهودي فسأطلق النار عليك.
رجال الأوقات العظيمة..!!
وطبعاً لم يكن الجندي الطيب شفيك يهودياً, أو قد يكون, لا فرق عنده أكان يهودياً أو مسيحياً أو مسلماً أو بوذياً. فقد قدمه ياروسلاف هاشيك في بداية روايته قائلاً: تتطلب الأوقات العظيمة رجالاً عظماء. هناك أبطال غير معروفين, متواضعون, ولا يتمتعون بأي فتنة تاريخية كالتي كانت لنابليون. واليوم يمكنك أن تقابل في شوارع براغ رجلاً يرتدي ملابس رثة, لا يدرك هو نفسه أهميته في التاريخ, إنه يسير بتواضع في طريقه دون إن يزعج أحداً. ولا يزعجه الصحفيون طالبين منه المقابلات. ولو سألته عن اسمه سيجيبك ببساطة ودون ادعاء أنا شفيك.
تحفل الرواية داخل نسيجها الفني بالعديد من الشخصيات اليهودية المسحوقة المزرية, فقد كان كافياً كي تشتم أن تقول للشخص أنت يهودي, فاليهودية شتيمة بحد ذاتها. هذا ما كان عليه الوضع وسط أوروبا بداية القرن العشرين حين كتب ياروسلاف هاشيك روايته. ولكن ما السبب؟
تميل بعض الأفكار إلى أن اليهود في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانوا في حالة تَراجُع أخلاقي وانحطاط حضاري هائل. خاصة الفقراء منهم, حيث تركَّزوا في مهن وحرف هامشية ومشينة, تجنب العمل فيها مسيحيو أوروبا, مثل تقطير الخمور وإدارة الحانات وبيع ورهن الحاجات المنزلية و الملابس القديمة، كما أنهم مارسوا مهنتهم القديمة الربا, كما كان عدد البغايا اليهوديات مرتفعاً، ونحن نجد أن صورة اليهودي كجاسوس صورة متواترة في الأدب العام لأوروبا, وقد ظهر كل هذا جليّاً في رواية الجندي الطيب شفيك. وقد تغير وضع اليهود في العالم إثر إعلان قيام دولة إسرائيل في الرابع عشر من أيار عام 1948.