«سـوبـر أمـيركـان»

«سـوبـر أمـيركـان»

«ضاع عالمنا في دوامة من الخراب، قتلة قساة من كل مكان يعيثون في الأرض دماراً ويقتلون الأبرياء من الناس، كان لابد من عمل ما، لابد من بطل عظيم يضرب بقبضته الحازمة لينهي كل تلك الشرور، لابد أن تحيا قيم العدل والحرية من جديد على يد أبطال قادرين على تحمل عبء تلك المسؤولية، انظروا.. من هذا؟!.. أجل .. إنه «ديفيد باتريوس».. أو «الملك ديفيد» كما يحب أن تناديه جموع المظلومين أثناء حملته التحريرية الأخيرة في العراق الرازح تحت رصاص الأشرار، لقد أحبه الجميع هناك، وأخلصت له وحدات جنده حتى تحقيق الانتصار، لقد آمن الجميع بأنه لم يأت إلى العراق ليقاتل، إنه هناك لمساعدة أولئك الناس..»!!!

يظهر المقطع السابق تحت صورة مرسومة ببراعة، صورة وجوه سمراء مبتهجة وهي «تعيد البناء» و«تمارس حقوقها الديمقراطية» في الحكم والانتخاب، نعم أظن بأنك عرفت من هو «ديفيد» هذا، ولا.. إنه ليس تشابهاً في الأسماء، إنه الجنرال «ديفيد باتريوس» القائد العملياتي الأعلى للقوات الأمريكية في العراق الذي نال حصة كبيرة من اهتمام وسائل الإعلام أثناء خدمته تلك حتى تقاعده في العام 2010، لكنه يظهر هذه المرة بشكل مختلف تماماً، بعد أن قامت شركة «بلو ووتر» الأمريكية الخاصة بطباعة وتوزيع القصص المصورة بإصدار النسخة البراقة من سيرة حياته تحت عنوان: «القوة السياسية: ديفيد باتريوس»، ولتوضع على الرف مع قصص «الرجل الحديدي» و«المرأة الخارقة» وغيرهم من أبطال الخيال القصصي..!!

تطالعنا الصفحة الأولى بمزيج عجيب بين «السيرة الذاتية» و«إحصائيات القتلى»، نستعرض فيها سيرة حياة «ديفيد» وتميزه الدراسي والأكاديمي، نرى شهادات تخرجه بـ«شرف» من أكاديمية «ويست بوينت» العسكرية، إلى جانب استعراضاته الرسومية الفجة عن قوته الساحقة وتركيزه على تدمير الأشرار أينما كانوا، بالإضافة لقوته العضلية المذهلة: «ها هي صورته بعد أن خرج من المستشفى قبل الموعد المحدد، نراه يقوم بتمرين ذراعيه خمسين مرة وهي ترفع وزن جسده عن الأرض، إنه يقوم بذلك بسهولة بعد تلقيه منذ أيام رصاصة في الصدر! يا إلهي!» هذا ما كتبته المجلة المصورة.. بالحرف!!

صور بريئة..

لابد للقصص المصورة أن تبالغ قليلاً في استعراض قوة أبطالها، لإرضاء الجمهور الواسع المتابع لهذا النوع من «المنشورات»، فهوس الأمريكي بالقصص المصورة واضح للجميع، وهي تحقق مبيعات هائلة منذ أكثر من نصف قرن، ورموزها أصبحوا قدوة مثلى للأجيال الصغيرة في الولايات المتحدة الأمريكية قبل أن نسمع نحن بها، وقد يفاجأ البعض بوجود نسخ ورقية قديمة للكثير من أبطاله المفضلين أيام الطفولة كـ«سوبرمان» و«الرجل العنكبوت» و«الرجل الحديدي» على شكل قصص مصورة منذ ثلاثة عقود على الأقل.

يرفع أحد التلامذة الأمريكيين قصة مصورة لـ«الرجل الصاعق» في أحد المعارض الخاصة بمجلات القصص المصورة: «إنه أخف من الكتاب بالكثير.. ويحوي الكثير من الصور الرائعة»، ويبدو أن هذه هي الحقيقة بالفعل، يظن الأمريكيون بأن القصص المصورة نوع مميز من الكتب، أكثر متعة وحيوية من الصفحات الجامدة للكتب العادية، وهذا ما يجده الباحث والطبيب النفسي «فريدريك ويرثام» خطيراً للغاية، حيث ترك كتابه «إغراء البريء» ضجة كبيرة من نشره للمرة الأولى في العام 1954،واحتوى على مئات التحذيرات حول ما قد تخلفه تلك الصور «البريئة» من شرور!

«أيقونة أمريكية»

العنف، تعاطي المخدرات، التلميحات الجنسية المنحرفة، هي بعض الأمور التي رصدها ذلك الباحث في القصص المصورة الأمريكية، ليس هذا فحسب، فقد تابع الكاتب غوصه في الرسائل المضمنة التي تحملها تلك المجلات المصورة، واتخذ من «سوبرمان» مثلاً توضيحياً، وأعاد متابعيه إلى أيام البطل الأولى، حينما كان يحارب اللصوص وسارقي البنوك خفية عن الدولة وخارج نطاق المؤسسات الحكومية، يلاحق الأشرار أينما كانوا مستفيداً من القوى التي اكتسبها من كوكبه الأم، ثم أشار إلى تحول واضح في قصة حياته مع مرور الأيام ليتحول في النهاية إلى «أيقونة أمريكية» يحارب أعداء الولايات المتحدة الأمريكية وتتداخل «بطولاته» مع «الإنجازات» العسكرية الأمريكية حول العالم. يوضح الكاتب ذلك مشيراً إلى صورة قديمة لـ«سوبرمان» وهو يحمل «هتلر» الضئيل من ياقته ويلوح بقبضته في وجه الطاغية المرتعب! 

لكن ذلك لم يمنع الكاتب من وصف صورة «سوبرمان» بالـ«فاشية»، قائلاً: «إن تلك النوعية من الأبطال تعمل على تقديم عالمنا على أسس من فاشية من العنف والكره والدمار، وأظن بأن هذا مضر جداً، حيث يتم التركيز على ذلك العالم الفاشي الشرير بشكل مفرط، ثم تتم إزالة هذا العالم بعنف زائد وغير منطقي، دون أن يراعي أحد القيم الديمقراطية التي نتوخى إيصالها للمتابعين..» ويتابع الكاتب قائلاً: «بدلاً من أن يقوم البطل الخارق  بعمله لنصرة الحق والعدالة، يقوم أولئك الأبطال بفعل ذلك بحثاً عن الشهرة والمجد المؤقتين، إن ذلك يدفع الأولاد أن يكونوا نرجسيين» ثم يخوض الكاتب بعدها في بحث علمي مطول يربط تأثير القصص المصورة مع ميل بعض الأطفال لخلق مشاكل في المنزل والمدرسة لكي يحاولوا حلها كما يفعل أبطالهم الخارقون.

من أجل المبيعات

وبالعودة إلى بطلنا «باتريوس» الجبار، تعد الشركة الناشرة بتحقيق أرقام قياسية في المبيعات، ووعدت بإصدار قصص أخرى عن بقية «الشخصيات العالمية»، وتمنت أن يصل هذا «الكتاب» إلى المدارس والجامعات، يضحك «دارن ديفيس» مؤسس هذه الشركة قائلاً: «لقد علمتني تلك المجلات المصورة أن أقرأ، وأرى فيها الكثير من الفائدة الفكرية»! وأعلن عن البدء بإصدار النسخة الخاصة بمرشحي الرئاسة الأمريكية للعام 2016، يمكنكم إذاً جميعاً تخيل مجموعة الأبطال الخارقين الذين سينقذون العالم في صفحات تلك القصص، لكن حتى ذلك الحين يمكننا تخيل الجنرال «باتريوس» وهو يقرأ عن نفسه في هذا «الكتاب» وهو يضحك بصخب وبلا توقف حتى تدمع عيناه..