بين قوسين: حديث الغزو!
لطالما فكّرتُ طويلاً بعبارة «الغزو الثقافي»، فالغزو مفردة بدوية، ما قبل ثقافية، فكيف نسمّي المعرفة الوافدة غزواً، وكيف نختصر العولمة بجانبها التسليعي وحسب، ونصرف النظر عن رحابة المقترحات التي أضفتها العولمة على الثقافة العالمية، فالاستلاب الكامل
أمام مغريات العولمة، ليس شرطاً قطعياً للانخراط بثقافة وافدة، وإهمال الثقافة المحليّة؟ لماذا لا نعترف بغياب الخطط الإستراتيجية في صناعة الثقافة، وضآلة الأموال التي تُخصص لها، بوصفها صناعة ثقيلة؟ ولعل أبرز التحديات التي تواجهها الثقافة العربية هي تغييب حس المواطنة، ومصادرة حريّة التعبير، في إقصاء علني لأحد بنود اتفاقية حقوق الإنسان (1948)، لمصلحة خطاب سلطوي، فمعظم الأنظمة العربية هي نتاج سلطة عسكرية أو أمنية، ليست الثقافة جزءاً من اهتماماتها، أو من صلب تكوينها، وإذا بالمثقف التنويري يُحاكم أو يكفّر، أو يُعتقل، فيما تتعزز صورة المثقف النفعي التابع أو الذيل. إذا لم نعد الاعتبار للمثقف الحرّ، لن ننتج ثقافة مغايرة تجد تمثلاتها المعرفية في الشارع العريض، أما أن نكتفي بصناعة ثقافة أغاني الفيديو كليب، والمسلسلات التلفزيونية المضجرة، وسحب الدسم من أي فكر مضاد، فلن نلتحق بقطار العصر على الإطلاق.
نحن على عتبة قمة للثقافة العربية. لا شك أنها فكرة برّاقة، وبإمكاننا طرح عشرات الأفكار لتطوير البنية التحتية للثقافة العربية، ولكن ماذا بخصوص النتائج؟ ألن تذهب كل المقترحات إلى الأدراج؟ تعالوا ننفض الغبار عن اتفاقية «تسيير انتقال الإنتاج الثقافي العربي» التي أقرتها «المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم» في تونس، قبل نحو ربع قرن (1987)، تُرى ماذا حصل منذ ذلك التاريخ، ألم تزدد الثقافة القطرية، وتتراجع القيم الثقافية القومية درجات إضافية، عمّا كانت عليه؟ هناك فواتير أخرى، لم تلتفت إليها الثقافة العربية بجديّة، ففي الوقت الذي تقتحم فيه الثقافة الالكترونية العقل المعاصر، نقوم نحن بخنق الكتاب الورقي ومحاكمته جمركياً ورقابياً على الحدود، ونحجب المواقع الالكترونية، ونضيّق الخناق على دور النشر في معارض الكتب، ونغيّب حقوق الملكية الفكرية، ونقلل من الاهتمام بالبرامج الثقافية في المحطات الفضائية، فيما تنمو كالفطر السام محطات التسلية، والفتاوى، والرياضة، والطبخ، وتالياً، تتراجع حصة الثقافة أكثر فأكثر، خصوصاً أن الرأسمال الخاص، لم يضع في اعتباره دعم المشاريع الثقافية والفكرية، كجزء من الضرائب المستحقة عليه. لن نتناول الإهمال الذريع للآثار والنهب المنظم لمعظم الكنوز الأثرية، وفوضى العمارة، والتلوّث البصري في المدن والعشوائيات.. كل هذه المشكلات تحتاج إلى علاج جذري، يتجاوز الشعارات، نحو تمكين الثقافة بالانفتاح على مختلف الأطياف والتيارات، وإشراك المجتمع المدني في تشييد ثقافة مجتمعية جديدة وأصيلة، تضع الفرد في جوهر مشاريع التنمية الثقافية، من دون تخوين، أو اتهام بتسويق أجندات وافدة، ذلك أن المؤسسات الحكومية فشلت في معظم العواصم العربية من مواكبة التحولات العالمية في معنى الثقافة، وظلت متمترسة في خندق الماضي، وإذا بأمم أخرى، تقطع مسافات طويلة في عمليات التحديث.
الثقافة اليوم لا تحتاج إلى مؤتمرات وندوات، بقدر ما تحتاج إلى ميزانيات ضخمة، لإعادة تأهيل مجتمع أصابه التشويه من كل جانب.