هيا.. هيا.. برازيل..
اقترب الموعد، حان وقت التحضيرات، بدأت الأعلام بتزيين الشوارع والمنازل، إنه الحدث الذي ينتظره العالم أجمع كل أربع سنين، أعلن الكثير من رواد الشبكات الافتراضية أيضاُ عن «ولاءاتهم» الجديدة للمنتخبات المشاركة، ووضع الكثير منهم خططاً محكمة للمتابعة والتشجيع كي لا تضيع أية لحظة من لحظات هذا الحدث العالمي الجامع، بدأت الشاشات تتابع تحضيرات أمهر اللاعبين وتوقعات أشهر المدربين، فالحدث هذه السنة مميز للغاية، إنه على أرض البرازيل، البلد الذي نعلم جميعاً أنه يعشق الكرة، يتنفس الكرة، يعيش و يموت من أجلها..يا للمصادفة ، قد يموت من أجلها حقاً هذه السنة..!
يملك الكثيرون منا تصوراً واضحاً عن عشق البرازيليين لكرة القدم، ويستطيع عشاق كرة القدم تعداد أسماء الكثير من الأبطال الذي ارتدوا القميص الأصفر الشهير، وألهبوا قلوب الجماهير بحركاتهم الرشيقة وأهدافهم التي لا تنسى، لكن الأمر قد تغير اليوم بالنسبة للكثير من البرازيليين، لم تعد أحلام الكؤوس الذهبية تشغل بالهم، وربما قد تفاجأ بانطلاق أكبر احتجاج شعبي مناهض لكأس العالم وما يمثله من قلب البرازيل قبل عدة أيام، حيث انطلق أكثر من مليوني برازيلي في الشوارع، رافقتاها إضرابات متلاحقة للمعلمين، ورجال البناء، والشرطة، وعمال البلديات، وبدأت صورة اللعبة الشعبية الأولى في البلاد تزداد سواداً للمرة الأولى منذ زمن، لابد أن شيئاً كبيراً للغاية قد أقنع البرازيلي بكره كرة القدم، لأن ذلك ليس بالأمر السهل أبداً!
الحلم العقيم..
بدأت القصة منذ أكثر من عشر سنين، بوصول الرئيس «لولا دا سيلفا» إلى سدة الحكم في البرازيل، حيث باشر على الفور باحتضان سياسات السوق الحرة الإمبريالية، وأخذ يدعم انتقال رؤوس الأموال الأجنبية إلى بلاده بشكل دائم عن طريق دعمهم وتسهيل أعمالهم، وبالأخص في مجال التنقيب عن الثروات الباطنية، وسرعان ما عاشت البلاد «فورة اقتصادية» دفعت الاقتصاد المريض قليلاً إلى الأمام.
كان «لولا دا سيلفا»يحلم بجعل البرازيل قوة عالمية عملاقة، ورأى أن من الأفضل أن تستضيف كأس العالم لرفع أسهمها لدى المستثمرين، وأمر بحملة إعلامية شرسة، حصلت في النهاية على حقوق الاستضافة، لكن البساط سحب بسرعة من تحت الأرجل، وأخذت رؤوس الأموال الأجنبية التي نهضت بالاقتصاد المحلي بهجرة البرازيل إلى أمكنة أخرى، توقف تصدير الموارد الباطنية إلى مصانع الصين عن طريق أولئك المستثمرين بعد حالة الكساد التي شهدها الوضع القائم هناك، لقد اعتمدت الحكومة وقتها على رؤوس الأموال تلك دون أن تجري أي إصلاحات اقتصادية أو مؤسساتية لتتخلص من الفساد المستشري فيها، ضاعت تلك الثروات بالسرعة التي جاءت بها وانتقلت إلى الجيوب الخاصة بدلاً من أن تجد طريقها في خطط الإعمار والتطوير، عادت الأنظار لتتوجه إلى كأس العالم، ورأى البعض بأن هذا الحدث سيعيد جزءا كبيراً من الأموال التي أنفقت عليه وربما أكثر..
لكن الشعب لم يتنظر، وبدأ بالنزول بكثافة إلى الشوارع، احتلت حركة «أشخاص بلا بيوت» الأرض مقابل ملاعب كرة القدم الجديدة مطالبة بإسكان المشردين في غرف فنادق الخمس نجوم المجاورة، ثم بدأ العمال والمهندسون المسؤولون عن إتمام تلك المرافق بالإضراب أيضاً، تدنت الأجور إلى حد لا يطاق، وأصبحت أموال كأس العالم تصرف من جيوب المواطنين، وانتقلت موجة الإضرابات في كل مكان دون أن يسمع أحد بها خارج البلاد.
ماذا سيأكل أولادي؟.. كرة قدم؟!
ما زالت شاشات العالم تنقل صور المشجعين المتحمسين وهم يدهنون وجوههم بالأصبغة ويرفعون الأعلام الصفراء والزرقاء..! لم يعلم أحد مقدار الذهول على وجه المواطن البرازيلي وهو يرى تشييد الملاعب والفنادق الضخمة في أوقات قياسية، وهو تحت سقف بيته المصنوع من الصفيح الصدئ.
صرخ المعلمون بوجه حكومتهم التي تنفق المليارات على المنتجعات السياحية بدلاً من بناء صفوف جديدة لتلاميذهم بعد أن اختنقت غرفة الصف بمائة طالب دفعة واحدة، إنهم يركضون من مدرسة إلى أخرى لرفد أجرهم الشهري المتدني بالقليل من المال الإضافي، تدنى مستوى التعليم وساد الإهمال والفساد في كل مكان، اكتظت المستشفيات بالمرضى وارتفعت أسعار الأدوية إن وجدت، في الوقت الذي ازداد فيه البذخ على الفنادق والمطاعم ومقاعد الملاعب الوثيرة التي ستريح المشجع الأجنبي وتقبل دولاراته بكل حبور!
لا تقلقوا، فالشعب البرازيلي يعشق كرة القدم أكثر منا جميعاً، وهم يتابعون ويشجعون منتخبهم الوطني، لكنهم يهتمون بلقمة عيشهم كحالنا جميعاً، ويعلمون بأن البرازيل بلد غني لكنه يعاني من الكثير من المشاكل في توزيع تلك الثروة، وأصبحوا على يقين الآن بأن الأموال موجودة لتصحيح تلك الأخطاء في نظامهم الاقتصادي والاجتماعي، بيد أنها تذهب إلى مكان مختلف تماماً..!
إنهم يريدون الاستمتاع بكأس العالم كبقية دول العالم، في بيوت مريحة، وبعد يوم نشيط من العمل الذي يؤمن قوت اليوم دون تذلل، هنا يعلق أحد المتظاهرين وهو يرسم العلم البرازيلي بالصباغ على وجه ابنته: «سأتابع منتخب بلادي حتى آخر دقيقة من آخر مباراة.. لكن.. من سيضع الطعام على المائدة..؟ ماذا سيأكل أولادي؟ .. كرة قدم؟!».