قراءة في كتاب: «السيطرة على الغذاء.. السيطرة على الشعب»
يؤكد الباحثان رامي زريق وآن غوف في كتابهما المهم «السيطرة على الغذاء، السيطرة على الشعب»،الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة، أنّ السياسة والأمن الغذائي متلازمان حقيقةً على عكس ما روّجت له مراكز البحوث، ويبرزان بالأمثلة والأرقام تأثير الاحتلال على التدمير المنهجي للوضع المعيشي والغذائي في قطاع غزة.
لا يقتصر الاحتلال عادة على الجانبين السياسي والعسكري، فهناك ما هو أفظع وأكثر قسوة رغم أنه غير مباشر، ولا يشذ الاحتلال الإسرائيلي عن القاعدة، حيث تدخل أيادي إسرائيل إلى جميع مفاصل الحياة الفلسطينية، اقتصادياً وغذائياً، قديماً وحديثاً، فكان «الانسحاب» الإسرائيلي من غزة عملياً، إعادة انتشار للقوات الإسرائيليّة، وتكريساً لـ«الحصار الناعم» من جهة بالإضافة لكونه عاملاً إضافياً لزيادة حجم الكوارث المتلاحقة في القطاع المنكوب.
«حمية إسرائيلية»..
يرد الكاتبين رامي زريق وآن غوف في كتابهما «السيطرة على الغذاء، السيطرة على الشعب ـــ الكفاح من أجل الأمن الغذائيّ في غزة» على عقلية تؤكدها عبارة لدوف ويسغلاس مستشار رئيس الحكومة «الإسرائيلية» السابق إيهود أولمرت، يقول فيها: «إنّ الفكرة هي فرض حمية على الفلسطينيين، لا جعلهم يموتون جوعاً». وهي ذريعة أساسيّة يعتمدها الاحتلال في تبرير حصاره المفروض على قطاع غزة منذ عام 2006، وكذلك في نفي الأساس السياسي والعسكري الذي يقوم عليه الحصار، حتى بعد الانسحاب المزعوم.
ويؤكدان أنّ مراكز الأبحاث والدراسات ووسائل الإعلام «لا تزال تتجاهل العوامل السياسية والاقتصادية الكامنة خلف النقص في المواد الغذائية»، مكتفيةً بتحميل وزر هذا الكابوس الغذائي على غلاء الأسعار.
يشرح الكاتبان في القسم الأول النظري من الكتاب بشكل مفصل التعريفات المعتمدة لمفهوم «الأمن الغذائي» لدى المؤسسات الدولية، ويشيران للنقص الفاضح في تلك التعريفات عند تفريغها من البعد السياسي والاقتصادي.
ويحاولان إعادة تعريف هذا المفهوم اعتماداً على الأبحاث الاقتصاديّة لأمارتيا سن، الاقتصادي الهنديّ الحائز جائزة «نوبل» في الاقتصاد. وهو يعتبر أنّ من يعانون جرّاء الأمن الغذائي هم في معظم الأحيان «الأكثر تهميشاً على الصعيد السياسي، لأنهم لا يستطيعون الوصول إلى استحقاقات مثل المياه النظيفة؛ والأراضي؛ ونظم الرعاية الصحية الفعالة؛ والعمالة؛ والمشاركة السياسية». فالسياسة والأمن الغذائي متلازمان حقيقةً، وليسا مستقلين، أو غير مرتبطين بالضرورة، كما تشير بعض مراكز الأبحاث والدراسات.
ملاحظة ماركس القديمة..
اعتماداً على تعريفهما، يطرح الكاتبان أمثلة عديدة توضح بالأرقام والإحصاءات التأثير المباشر للاحتلال الإسرائيلي والحصار على التدمير المنهجي للوضع المعيشي والغذائي في القطاع. مستندين إلى الملاحظة القديمة لماركس، لأن التكنولوجيات التي تستخدم لزيادة خصوبة التربة لأغراض الإنتاج الرأسمالي قصير المدى تلحق ــ في الواقع ـ ضرراً بديمومة التربة والعاملين فيها وصحتهم: «عندما تُعطى القيمة الأكبر للإنتاج المكثّف وتُجرّد التربة من قدرتها على الإنتاج المستديم، ويُجرّد عمال المزارع من سبل عيشهم»، تتوضح الأمثلة الخاصة بقطاع غزة.
يطرح الكاتبان تحليلاً إحصائياً للأضرار التي تأثرت بها التربة والزراعة والصيد في قطاع غزة. في العقد الممتد بين 1999و 2009، إذ كانت الزراعة تؤمن الوظائف لنحو 16% من مجموعة القوة العاملة في غزة، ولما يقارب 40 في المئة من القوة العاملة غير النظامية في القطاع. بعد تفعيل سياسات الحصار، أصبحت الفرص المعيشية في القطاع اليوم شبه معدومة «بسبب سياسات ضم الأراضي التي تنتهجها إسرائيل منذ وقت طويل».
ويشير الكاتبان إلى ضرورة البحث في العلاقة بين ارتفاع معدل الإصابة بـ«متهيموغليبينية» الدم لدى الأطفال (اضطراب من أعراضه التقيؤ والكسل والإغماء)، تزامناً مع الاستخدام المتعاظم لأسمدة النتروجين في زراعة المحاصيل الفاخرة المعدة للتصدير كالفريز، التي تدعمها الحكومة «الإسرائيلية» ووكالات المساعدات الدولية، عدا الضرر الدائم للتربة بشكل لا يتيح زراعة «محاصيل استراتيجية» لا ترتبط بخطط قصيرة الأمد.
لم يكن المجال البحري أقل ضرراً من المجال البري. حيث «لا يُسمح للصيادين الغزاويين رسمياً بالصيد إلا في حدود مسافة تبعد ثلاثة أميال بحرية فقط عن الشاطئ» منذ عام 2007، رغم البند الصريح في اتفاق أوسلو المؤقت الذي يجيز لصيادي السمك في غزة الصيد حتى مسافة 20 ميلاً بحرياً عن الخط الساحلي..!
ويركز الكاتبان على تأثير المنظمات المانحة، حيث يبتعد عن المساعدات الخاصة بالتنمية طويلة الأجل، كالبنى التحتية، والتعليم، والمياه، والصرف الصحي، ويتركز، بدلاً من ذلك، في «بناء المؤسسات» والمساعدات الإنسانية الأكثر فورية، التي لا تتيح ولا تسمح ببناء منظومة غذائية فعلية. وكذلك، المعايير المزدوجة التي تتعامل بها هذه المؤسسات تسهم ـ بشكل غير مباشر ـ في الانحدار التدريجي للأمن الغذائي في غزة. إذ ترفض وكالات المساعدات الدولية شراء مواد تشتبه في أنها مصنوعة من عناصر مستوردة عبر الأنفاق، رغم أنّ الأنفاق هي «ردّ مباشر على القبضة الإسرائيلية المحكمة على الاقتصاد والأراضي». أما المنظمات الأخرى، مثل «أوكسفام»، ومكتب «المفوضية الأوروبية للمساعدات الإنسانية»، فترفض شراء منتجات مصنع الأنابيب الوحيد المتبقي في غزة «لاشتباهها في حصوله على مواد عبر الأنفاق. ولكنها لا تشعر بوخز الضمير عند شراء السلع من الشركات «الإسرائيلية» التي ربما تساهم في الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني للأراضي الفلسطينية».
وتشترك السلطة الفلسطينية ـ بدرجة ما ــ في التسبب بهذا الكابوس المعيشي، فهي تميل إلى وجهة نظر المؤسسات الدولية، ووكالات التنمية التابعة لها، بينما يُفترض بها أن تكون سلطة للدفاع عن حقوق الفلسطينيين. لكنها بدلاً من ذلك، تعفي «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» USAID من التسجيل لديها، ما يتيح لهذه المنظمة، وغيرها، ولمختلف الشركات المتعاقدة معها من الباطن، «تجنب المقتضيات المعهودة مثل إطلاع المسؤولين الفلسطينيين على ميزانيتها ونشاطاتها وسياستها التوظيفية».
ختاماً، يؤكد الكاتبان أهمية البحث عن وسائل للهروب من قبضة الحصار الإسرائيلي، عبر اللجوء إلى مشاريع اقتصادية وتنموية غير مرتبطة بخطط قصيرة الأجل، خصوصاً تلك التي تشجع عليها المؤسسات المانحة. تتزايد أهمية التركيز على هذه النقطة بالذات لأنّ منظمة USAID، بشكل خاص، مسؤولة أو مشتركة أو داعمة في تمويل معظم المنظمات غير الحكومية التي نشطت بعد التطورات الأخيرة في الدول العربية، خصوصاً في سورية، التي كانت، لأسباب كثيرة، أقل الدول تضرراً بفعل هذه المنظمات.