فيلم سوري طويـل
رائد وحش رائد وحش

فيلم سوري طويـل

رغماً عنها تستدعي الذاكرة مسرحية «فيلم أمريكي طويل»، المسرحية التي تبدو، رغم تقادم عهدها، مصنوعةً خصيصاً لزمانٍ كهذا.

ورغماً عنها تدبُّ الروح في الشخصيات التي بنى بِنَانَها الصانع الاستثنائيّ زياد الرحباني، لأنها مخلوقة لمثل هذا الوقت، وبمثله، لكي تبقى تدور في أبدية الدهور لتتجلى، المرّة تلو المرّة، في الأوقات والظروف التي تقف فيها البلدان على حوافي الجنون.

أووووه.. ما أشبه جنون رشيد وعبد الأمير وأبو ليلى وإدوار، وحتى الطبيب والممرضات، بجنوننا الآن!!

ما أشبه ذلك العالم النفسي المتداعي بلحظتنا المنذورة لانهيارات عصبية فردية، وانشطارات جماعية، لا يحدهما حدٌّ!!

كل شخصية كانت تمثل انعاكساً حاداً لمفصل سببته حوادث الحرب الأهلية اللبنانية، كانت أيضاً، وعلى مستوى ثانٍ للصّراع الدراميّ، تصارع المؤسسة (مستشفى الأمراض العصبية حسب النص) لكي تؤكّد رؤيتها الخاصة، بين مؤامرة خارجية، أو فتنة طائفية متأصلة في المجتمع، أو حربٍ شخصية على المزاج كما يمثلها الحشاش.

تبدو الحرب نزاعاً بين أشخاص يمثلون أفكاراً، قبل أن تبدو نزاعاً مسلحاً بين فرقاء وأشيعة، حسب (فيلم) زياد، ويبدو الأشخاص، حسبه أيضاً، أشباحاً تائهةً في رسومٍ دارسة. ففي الحرب التي لا ينتصر فيها أحد يهزم فيها الجميع. وفي الحرب التي لا تؤدي إلى مطافٍ واضح يكون المصير هو الغرق. الغرق في الجنون. في الذهان. في اللا في.. لأن الحرب الأهلية ليست سوى مطحنة داخلية. بهذا تكون الشخصيات التي يجمعها المستشفى عيّنة لشعب مخذول، شعب مسروق. نموذجنا الأول هو رشيد (أدّاه زياد نفسه) الذي تفجّرت فيه الهستيريا من تناقضات فاقت مقدرته على الاستيعاب، كانت محصلتها سرقة حلمه بـ«لبنان جديد».

ما يحدث هناك يتجلى في واقعنا على شكل خوفٍ عمومي. خوف يتسرب في حبيبات الهواء، ويساهم في تغبيش المشهد.. هذا ما يجعل الجميع على حافة الجنون.. الجنون الذي يأخذ ـ أؤكد لكم ـ هيئة أنفلونزا غريبةً بادئ ذي بدء.. (الأنفلونزا نفسها ربما تكون ضرباً من الإشارات التي تحدّث عنها رشيد!!) من ثم يتحوّل فيروسها، بعد تسلله، رويداً رويداً، إلى صناديق رؤوسنا، إلى أشكالٍ أكثر تطوراً، بحيث لا يمكن السيطرة عليها، مما من شأنه ضرب الخلايا التي تتحكّم بمنطق التّعايش، ليظهر الوباء، مع استشراء العدوى، في شكل واحدٍ وحيدٍ هو تقويض فكرة الحياة المشتركة!

هذه بعض ملامح العقل السوري مع أول هبةٍ، من أول حراك شعبي يشهده عصرنا الحديث. ربما يرجع ذلك إلى غياب السياسة التام عن المسرح اليومي، فالشعب الذي قضى جل عمره يتجنب السياسة، لشعورٍ ضمنيّ باللا جدوى منها، ولاستشراء ما تقود إليه من غياب في مجاهيل القدر أو مجاهيل الأقبية على حد سواء.. حتّى باتت مفردة (السياسة) في قاموسه مفردةً نابيةً!!

الآن، وقد وجد هذا الشعب نفسه، حين هب جزءٌ منه، في ورطةٍ. ورطةٍ فاقمتها الروايات المتضاربة بين الشارع الذي يعيش فيه، وبين الشاشات التي تعيش فيه، فراحت تنتابه أحاسيس جنونية مُمَزِقة، فلا شيء أمامه سوى لا معلومات ولا حقائق، ولا مرشد للروح أو قائد يعمل على تعميق مفهوم حقيقي يجعله (الشعب) يسير في دربه سيراً يسيراً إلى الجهة التي يبقى فيها شعباً.

هكذا علت الأصوات الطائفية.. هكذا عمّ الخوف والدم.. هكذا ضاع السبيل..

ثم جاء دور الحوار، كما كان الحوار بين الطبيب (المأزوم هو الآخر) والمرضى. وستظهر أزمة الطبيب في الفيلم الأمريكي في خياره الأخير؛ العلاج بالكهرباء، لنرى الجميع قد فقدوا أصواتهم واستعاروا صوت السلطة، صوت المؤسسة.. الصوت الذي لا صوت حقيقيةً! وهو الجنون  الكامل، أو الجنون وقد اكتمل، فهؤلاء الذين يبدون مجانين هم الأكثر تعقلاً في تعبيرهم الدقيق عما يجري في الواقع، بينما الجنون هو الأسلوب الذي تم به التعامل معهم.

لو ترك لإدوار المعقد من أصحاب الأديان الأخرى لرشيد المصاب بالعنف لكانا، ربما، بقوة التضامن الإنساني، وبعمق البصيرة التي لابد أن تجد سبيلاً للخروج.. لكانا ساهما في تخفيف شقاء روحهما.. لكن المؤسسة أغلقت الستار على خيار (الكهربة)، خيار القمع، خيار التدجين، خيار إنهاء الخيارات الأخرى.. فكانت الخسارة سيدة المشهد..

في «فيلم أمريكي طويل» صرخة رشيد الأخيرة، رغم كل ما جرى، هي صرخة البقاء.. وفي الفيلم السوري الطويل الذي نعيشه لا نزال ننتظر تلك الصرخة!